الزهراء القدوة في حياتها العائلية
ورد عن أمير المؤمنين علي
في حديثه عن حياته مع الصديقة الزهراء
: «فَوَ اَللَّهِ مَا أَغْضَبْتُهَا، وَلاَ أَكْرَهْتُهَا عَلَى أَمْرٍ حَتَّى قَبَضَهَا اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ أَغْضَبَتْنِي، وَلاَ عَصَتْ لِي أَمْراً، وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَنْكَشِفُ عَنِّي اَلْهُمُومُ وَاَلْأَحْزَانُ»[1] .
لوجود الأنبياء والأئمة في حياة البشر وظيفتان رئيستان: أولها التبليغ ونشر القيم والمبادئ بين الناس، وثانيها تمثيل الأنموذج الأفضل لتطبيق هذه المبادئ والقيم.
ومما لا شك فيه أن وجود القيم والمبادئ بين الناس أمر مهم، لكن الناس بحاجة إلى من يطبق هذه المبادئ والقيم ليتأكدوا من أنها ممكنة التطبيق وليست مجرد قيم مثالية خيالية.
وخير أنموذج لهذه القيم هم من جاء بها أي الأنبياء والأئمة. ولهذا فإن سيرة وحياة الأنبياء والأئمة حجة على الخلق. من هنا كان مطلوبا من الناس أن يتمثلوا قول الأئمة، وأن يترسموا كذلك طريقتهم في الحياة الاجتماعية.
إن هذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾[سورة الأنعام، الآية: 90] فالاقتداء مطلوب، وكذلك التأسي طبقا للآية الكريمة: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[سورة الأحزاب، الآية: 21].
يتصور بعض الناس خطًأ أن ظروف حياة الرسل والأئمة تمتاز بخصوصية فريدة، لا يترسّمها ويهتدي بها سائر الناس. إن هذه الفكرة تعد خاطئة تمامًا وناقضًا لعلة إرسال الأنبياء والرسل، وهي اقتداء الناس بهم. نعم هناك خصوصيات يمتاز بها المعصومون، لكنها حالة استثنائية. ولو كانت كل سيرتهم فوق طاقتنا لما أُمرنا بالاقتداء والتأسي بهم.
ونحن حين نحتفي بذكرى هؤلاء الهداة، فلا بُدّ لنا أن نستحضر واقعهم الاجتماعي، وكيف مارسوا حياتهم لنقتدي بهم. وهذه أيام نعيش فيها نفحات عطرة لذكرى ولادة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء
، ونريد أن نقتبس قبسًا من أنوار سيرتها، حتى نستضيء به في حياتنا، وليكن هذا القبس من حياتها الزوجية، حتى نترسم طريقنا في هذا الجانب، ولنرى كيف كان التعامل بين الزوجين المباركين علي وفاطمة
.
يحدثنا أمير المؤمنين
في رواية عن العلاقة الزوجية بينه وبين الزهراء
، فيبين لنا من خلالها كيف كان تعامله معها، وكيف كان تعاملها معه. يقول
: «فَوَ اَللَّهِ مَا أَغْضَبْتُهَا، وَلاَ أَكْرَهْتُهَا عَلَى أَمْرٍ حَتَّى قَبَضَهَا اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ أَغْضَبَتْنِي، وَلاَ عَصَتْ لِي أَمْراً، وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَنْكَشِفُ عَنِّي اَلْهُمُومُ وَاَلْأَحْزَانُ»[2] .
من جهة الزوج
يقول أمير المؤمنين
«فَوَ اَللَّهِ مَا أَغْضَبْتُهَا». ومقتضى ذلك أن الإمام
لم يقم بأي تصرف يغضب الزهراء
لا قولًا ولا عملًا. فهل كان ذلك خاص بعلي والزهراء لأنهما معصومان؟ إذًا لماذا يحدثنا أمير المؤمنين بشيء لا يمكن تطبيقه؟ إن الإمام إنما حدّث بهذا حتى يسنّ لنا منهجًا في العلاقة الزوجية، وهو أن يسعى الزوج لكسب رضا زوجته، وأن يتجنب اغضابها ما استطاع.
ويقول
في الرواية ذاتها «وَلاَ أَكْرَهْتُهَا عَلَى أَمْرٍ». أي لم يبادر
إلى شيء يفرضه فرضًا على الزهراء
ويجبرها عليه. وهنا يريد الإمام أن يسن قانون التوافق والاقتناع المتبادل بين الزوجين فيما إذا أراد أحد الطرفين شيئًا من الآخر، لا أن يكون على أساس الفرض والإجبار.
من جهة الزوجة
ثم يبين ما كان من جانب الزهراء
تجاهه فيقول: «وَلاَ أَغْضَبَتْنِي». فالزهراء أيضًا كانت حريصة وملتزمة عدم التلفظ بكلمة تؤذيه، أو تتصرف تصرفًا يثير شيئا من الغضب في نفسه
. وتتم حسن تبعلها بطاعته، فلا تخالفه في قول «وَلاَ عَصَتْ لِي أَمْراً». وكانت
تجلب السرور إلى نفسه، وتكشف همومه: «وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَنْكَشِفُ عَنِّي اَلْهُمُومُ وَاَلْأَحْزَانُ».
هذه هي العلاقة السليمة التي ينبغي أن تكون بين الزوجين، علاقة التوافق والانسجام. وذلك بأن يحرص كل منهما على ألا يغضب الآخر، ويسعى لكسب ودّه ورضاه، وأن الفروض المطروحة ينبغي أن تكون عن قناعة حتى يستجيب الطرف الآخر. ولا بُدّ من أخذ مشاعر وظروف كل طرف بعين الاعتبار.
إن التوافق والانسجام بين الزوجين له أهمية كبيرة، فهو يجلب الراحة للإنسان، ويزيد في فاعليته وعطائه، كما أنه يساعد على إنتاج أبناء صالحين، حيث أن الأولاد الذين يتربون في عائلة منسجمة تكون نفوسهم سليمة، وسلوكهم سويًا، وما كثُرَتْ المشاكل الاجتماعية والانحرافات، إلا وكانت المشاكل العائلية، وفساد الجو الأسري أحد أسبابها.
إن هناك عوامل تساعد على الانسجام والتوافق بين الزوجين، من أهمها:
حُسن اختيار الزوج
لا بُدّ أن يكون اختيار الزوجين أحدهما للآخر على أساس المعايير السليمة، بعيدًا عن الماديات والشكليات. فقد يكون جمال الزوجة عنصر مطلوبًا، ولكن لا ينبغي أن يكون هو أساس الاختيار. لا بُدّ أن يكون للالتزام السلوكي دور في الاختيار، تبعا للحديث الشريف الوارد عن رسول الله
: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ»[3] .
إن من أخطر المشاكل التي يقع فيها الشباب الآن، هو سيطرة العواطف في الاختيار، حيث يتعرف الشاب والشابة على بعضهما عبر وسائل الاتصال المتطورة والمختلفة، ويسمع هذا كلمة مثيرة، وتسمع تلك كلامًا عاطفيًا، وإذا بهما فيقعان في فخ قد يكلف الخروج منه الكثير.
الوعي بالحقوق الزوجية
إن وعي الزوجين بحقوقهما مدعاة لتأسيس علاقة قوية بينهما. وتكمن مشكلة الكثير من الأزواج أنهما يقيمان الشراكة الزوجية من دون تأهيل، فلا يعرف كلٌ منهما ما له وما عليه. إن الدراسات المعاصرة تشير إلى أن المجتمعات التي يلتزم أبناؤها بدورات تأهيلية قبل الزواج، تنخفض عندهم نسبة المشاكل العائلية. ان تأهيل الزوجين قبل الزواج أمر مهم، بل هو في غاية الضرورة، كيف لا، ونحن لا نعطي قائد السيارة رخصة القيادة إلا بعد إتمام التدريب، وكذلك بعض الوظائف المهنية، فهل تأسيس الشراكة الزوجية أقل شأنًا من ذلك؟
إن في سيرة الزهراء
مع أمير المؤمنين
ما يشير إلى هذا الجانب، وهو معرفة الحقوق والواجبات المتبادلة.
ورد عن أبي عبدالله الإمام جعفر الصادق
عن أبيه الإمام محمد الباقر
: «تَقَاضَى عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ
فِي اَلْخِدْمَةِ ـ والتقاضي يعني أنهما ذهبا إلى رسول الله
ليحكم بينهما، ويبين لهما الأمر. وليس معنى التقاضي هنا أن الأمر قد سبق بخلاف ونزاع، وإنما يريدان أن يحددا الحدود بينهما ـ فَقَضَى عَلَى فَاطِمَةَ
بِخِدْمَتِهَا مَا دُونَ اَلْبَابِ، وَقَضَى عَلَى عَلِيٍّ
بِمَا خَلْفَهُ»[4] .
وعنه
: «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
يَحْتَطِبُ وَيَسْتَقِي وَيَكْنُسُ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ
تَطْحَنُ وَتَعْجِنُ وَتَخْبِزُ»[5] .
وتشير نصوص كثيرة إلى تقاسم الخدمة بين الزوجين، إن من المعلوم بأن الشرع لم يفرض الخدمة المنزلية على المرأة، ولكن حين يكون اتفاق على تقاسم الأدوار فإن ذلك يخلق بيئة أسرية راقية.
ورد عن سلمان الفارسي قال: كَانَتْ فَاطِمَةُ
جَالِسَةً قُدَّامَهَا رَحًى تَطْحَنُ بِهَا اَلشَّعِيرَ، وَعَلَى عَمُودِ اَلرَّحَى دَمٌ سَائِلٌ، وَاَلْحُسَيْنُ فِي نَاحِيَةِ اَلدَّارِ يَتَضَوَّرُ مِنَ اَلْجُوعِ، فَقُلْتُ: يَا بِنْتَ رَسُولِ اَللَّهِ دَبِرَتْ كَفَّاكِ، وَهَذِهِ فِضَّةُ، فَقَالَتْ: «أَوْصَانِي رَسُولُ اَللَّهِ
أَنْ تَكُونَ اَلْخِدْمَةُ لَهَا يَوْماً، فَكَانَ أَمْسِ يَوْمَ خِدْمَتِهَا»[6] . ومعروف أن فضة وهي من بلاد النوبة أهداها رسول الله
كجارية إلى فاطمة تعينها في خدمة البيت، وقال لها تقاسمي الخدمة معها، عليك يوم وعليها يوم. مع أنها ملك لها وليست مجرد خادمة، لكنها مع كل ذلك تتقاسم معها الخدمة! وهذا ما ينبغي أن تسير عليه نساؤنا في تعاملهن مع خادماتهن. فلا بُدّ للخادمة من وقت للراحة فهي بشر.
التقوى والالتزام الديني
لا بُدّ لعامل التقوى أن يتجلى في التعامل بين الزوجين. فلا يصح أن نخرج رقي التعامل بين الزوجين من الدين، وكل يفعل كيف شاء. إن بعض النساء يرغبن في العبادة والتقرب من الله، فيذهبن للحج والعمرة والزيارة ويؤدين كثيرًا من النوافل، وهو أمر حسن، لكن ينبغي ألا يكون ذلك على حساب راحة الزوج، واستقرار البيت الأسري. كما أن على الزوج في مقابل ذلك أن يراعي زوجته ومشاعرها، فلا يستغل قوته كرجل في كل شيء، فيرفع صوته في وجه زوجته بغير حق، فهذا محلّ إشكال وإثم. وكلما تجلت التقوى بين الزوجين كان الجو العائلي أنقى وأطيب.
تقول الصديقة الزهراء
لأمير المؤمنين أثناء وداعها له: «يَا اِبْنَ عَمِّ، مَا عَهِدْتَنِي كَاذِبَةً وَلاَ خَائِنَةً وَلاَ خَالَفْتُكَ مُنْذُ عَاشَرْتَنِي، فَقَالَ
: مَعَاذَ اَللَّهِ، أَنْتِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ، وَأَبَرُّ وَأَتْقَى وَأَكْرَمُ وَأَشَدُّ خَوْفاً مِنْ اَللَّهِ مِنْ أَنْ أُوَبِّخَكِ بِمُخَالَفَتِي»[7] .
روح الإيثار والتضحية
إذا ساد منطق الأنانية بين الزوجين تلاشت أجواء السعادة والهناء. وتتجلى قمة الانانية عندما يريد الزوج من زوجته أن توفر له كل سبل الراحة، دون ان يعنيه أن تكون مرتاحة أم لا. وعلى غرار ذلك عندما تتمنى الزوجة أن يلبّي لها الزوج كل رغباتها، ولا يعنيها إن كان ذلك يشق عليه أم لا. لا ينبغي ان تسود هذه الروح الأنانية بين الزوجين، بل المطلوب أن يكون هناك إيثار وتضحية من قبل كل منهما.
وروي أن أمير المؤمنين علي
قال لرجل من بني سعد: «أَلاَ أُحَدِّثُكَ عَنِّي وَعَنْ فَاطِمَةَ اَلزَّهْرَاءِ، أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدِي فَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَ فِي صَدْرِهَا، وَطَحَنَتْ بِالرَّحَى حَتَّى مَجِلَتْ يَدَاهَا، وَكَسَحَتِ اَلْبَيْتَ حَتَّى اِغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتْ تَحْتَ اَلْقِدْرِ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا، فَأَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ ضُرٌّ شَدِيدٌ»[8] . هكذا كانت
تبذل ما بوسعها من أجل إسعاد زوجها وعائلتها.
وفي رواية تقول: «دَخَلَ رَسُولُ اَللَّهِ
عَلَى عَلِيٍّ فَوَجَدَهُ هُوَ وَفَاطِمَةَ
يَطْحَنَانِ فِي الجاروش، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ
: أَيُّكُمَا أَعْيَا؟ فَقَالَ عَلِيٌّ فَاطِمَةُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ ـ وهنا يتجلى جانب الإيثار ـ فَقَالَ لَهَا
: قُومِي يَا بُنَيَّةِ، فَقَامَتْ، وَجَلَسَ اَلنَّبِيُّ
مَوْضِعَهَا مَعَ عَلِيٍّ
فَوَاسَاهُ فِي طَحْنِ اَلْحَبِّ»[9] .
بل كانت فاطمة
تخشى أن تكلف عليًا
ما لا طاقة له به، حتى في القوت، بل وتؤثره على نفسها وتطوي هي جائعة.
عن أبي سعيد الخدري قال: أَصْبَحَ عَلِيٌّ
ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ لِفَاطِمَةَ
: «يَا فَاطِمَةُ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ تُغَذِّينِيهِ؟ قَالَتْ: وَاَلَّذِي أَكْرَمَ أَبِي بِالنُّبُوَّةِ مَا أَصْبَحَ اَلْيَوْمَ عِنْدِي شَيْءٌ أُغَذِّيكَهُ، وَمَا كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ مُنْذُ يَوْمَيْنِ إِلاَّ مَا كُنْتُ أُوثِرُكَ بِهِ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى هَذَيْنِ - تَعْنِي اَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ -. قَالَ: فَهَلاَّ كُنْتِ ذَكَرْتِ ذَلِكَ لِي، فَأَبْغِيَكُمْ شَيْئاً؟ قَالَتْ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اَللَّهِ أَنْ أُكَلِّفَكَ مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلاَ تَجِدُهُ»[10] .
علينا ونحن نستقبل ميلاد الزهراء
، أن نأخذ هذا الدرس في التوافق الزوجي، ونطبقه في حياتنا الأسرية. إن على الزوج ألا يُغضب زوجته، ولا يجور على حقوقها، فيطلب منها خدمة البيت وتربية الأولاد، وفي بعض الأحيان رعاية والديه، دون أن يُكلف نفسه بأن يقوم بشيء من ذلك. ولا شك أن من البر أن يرعى الإنسان والديه، ولكن عليه أن يقوم بذلك بنفسه، لا أن يفرض ذلك على زوجته. نعم يستطيع أن يسترضيها في ذلك ويشجعها، وهي أيضًا عليها ألا تفوت هذه الفرصة الثمينة من الثواب العظيم. كما أن على الزوجة أيضًا أن تراعي حقوق زوجها، وأن تأخذ بعين الاعتبار ظروفه وإمكاناته. وإذا ما كان ذلك من قبل الزوجين، فإن التوافق بينهما يتم، والاستقرار الأسري يكون قويًا وناجحًا.






