خطاب التطرف والثمن الباهظ

دفعت الأمة ثمناً باهظاً لخطاب التطرف والتشدد على الصعيدين الداخلي والخارجي.

فقد كرّس هذا الخطاب حالة التشرذم والنزاع داخل الأمة، حين أعطى أولوية مطلقة، وأهمية قصوى، للمسائل الخلافية الجزئية، في أمور العقيدة والشريعة، وهي كانت محلّ خلاف قديم، ليجعلها حداً فاصلاً بين الإيمان والكفر، والهدى والضلال، متجاوزاً مساحات الوفاق الواسعة بين المسلمين، في أصول الإيمان، وأركان الإسلام وفرائضه.

مما فتح باب التكفير والتبديع على مصراعيه، وأصبح تكفير الأشخاص والطوائف والجماعات والمجتمعات مسألة سهلة، يفتي بها حتى من له أدنى حظٍ من الاطلاع على العلوم الشرعية.

وأنتج هذا الخطاب ثقافة تحريضية تعبوية، تنشر الكراهية والعداء بين المسلمين، بمبرر الخلاف المذهبي، أو حتى الخلاف الفكري والفقهي ضمن المذهب الواحد.

وتربى على هذا الخطاب جيل صار يتقرب إلى الله تعالى بالبراءة من أخوة له في الدين،يجمعه وإياهم الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، والالتزام بأركان الإسلام، بل وصل الأمر إلى استباحة الحقوق، وانتهاك الحرمات، وممارسة الإيذاء المادي والمعنوي، وسفك الدماء، والاعتداء على المساجد والأماكن الدينية بالتفجيرات، وإطلاق النار على المصلين، كما حدث مكرراً في باكستان واليمن وربما في بلاد أخرى.

اضطراب الأمن


وعلى الصعيد السياسي قاد هذا التطرف إلى تفجير الأوضاع الأمنية، في كثير من البلدان الإسلامية، وأصبح السلاح والعنف هو لغة التخاطب مع الحكومات والسلطات، عبر الاغتيالات والتفجيرات التي عادة ما تطال الأبرياء المدنيين من مواطنين ومقيمين، وتؤدي إلى سلب الأمن والاستقرار، وإلى تشديد الإجراءات الأمنية على حساب الحريات العامة.

ضياع الطاقات


لقد استقطب هذا الخطاب شريحة من أبناء الأمة اندفعت إليه بإخلاصها وحرصها على خدمة دينها، هذا الإخلاص والحرص، كان يحتاج إلى التوظيف الصحيح، والتوجيه المناسب، ليؤدي دوراً إيجابياً في تغيير واقع الأمة إلى الأفضل، لكن مسار التطرف أضاع هذه الطاقات، وبددها في الاتجاه الخطأ.
التنفير من الدين

وشريحة أخرى من أبناء الأمة بهرهم تقدم الحضارة الغربية، ولم تتوفر على معرفة كافية بالدين، فتأثرت بالاتجاهات الفكرية الوافدة، وكانت بحاجة إلى حوار موضوعي هادئ، وثقافة إسلامية واعية، لتستعيد ثقتها بدينها، ولتحافظ على هويتها، وتعتز بالانتماء إلى قيمها الأصيلة، لكن خطاب التطرف زادها عن الدين بعداً، وكرّس لديها حالة النفور من الإسلام، بلغته الفظّة القاسية، وأسلوبه القمعي الشديد، واهتماماته الجزئية القشرية، البعيدة عن قضايا العصر وتطورات الحياة.

لقد زج مسار التطرف الأمة في معارك جانبية شرسة، أضافت للأمة أتعاباً جديدة، وشغلتها عن التحديات المصيرية التي تواجهها، وخلطت الأوراق، وزيّغت الاهتمامات عند قطاع واسع من جماهير الأمة ونخبها.

فخ صدام الحضارات


كل ذلك كان بعض آثار التطرف على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي، فقد منح هذا التطرف المنتسب إلى الإسلام، فرصة عظيمة، لدوائر التخطيط للهيمنة العالمية في مؤسسات القرار والحكم الأمريكي، لتجد العدو الذي تبحث عنه بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الشرقي، حتى يكون عنواناً للتعبئة والتحشيد، واستمرارية روح التحدي والمواجهة، ومبرراً لممارسة دور الزعامة والهيمنة على الصعيد الدولي.
وما مقولة (صدام الحضارات) إلا تنظير تمهيدي لهذه المعركة الجديدة التي كانوا يخططون لها، وأعانهم مسار التطرف الإسلامي على اختيار الضحية التي يفتشون عنها.

وهكذا وجدت الأمة نفسها في أتون حرب ضروس ومعركة ضارية، لم تتهيأ لها، وغير مستعدة لخوضها، وهي معركة شاملة مفتوحة، عنوانها مكافحة الإرهاب، جعلت كل بلاد المسلمين أرضاً مكشوفة للعمليات العسكرية والتدخل الأجنبي، بدءاً من أفغانستان ومروراً بالعراق، وسيف التهديد مسلط على باقي الدول والبلدان...

إلى جانب العمليات العسكرية، هناك معركة فكرية ثقافية تستهدف هوية الأمة، ومبادئها الدينية، وانتماءها الحضاري، أطلق عليها أخيراً وزير الدفاع الأمريكي (دونالد رامسفيلد) عنوان حرب الأفكار، ففي مذكرة مسربة منسوبة إليه وتصريحات علنية، أكد رامسفيلد: ((أهمية هزيمة الإرهاب ليس فقط بالقوة العسكرية ولكن أيضاً في حرب الأفكار مشيراً إلى خطر المدارس الدينية)).

وكان رامسفيلد طرح في مقابلة مع (نيويورك تايمز) فكرة إقامة ((وكالة معلومات في القرن الواحد والعشرين في الحكومة للمساعدة في شنّ معركة العقول)) (جريدة الحياة اللندنية 25 / 10 / 2003م).

إن جميع المدارس الدينية الإسلامية ومناهج التعليم، والمؤسسات والمراكز والمساجد، وخطب الجمعة، كلها أصبحت في دائرة الاتهام والاستهداف، والشخصيات الإسلامية الفاعلة أدرجت أسماء كثير منها في القوائم السوداء، وحدثت مداهمات للعديد من المراكز الإسلامية في أمريكا وأوروبا، واعتقل عدد من العلماء والمفكرين المسلمين هناك، كان آخرهم الدكتور عبدالرحمن العمودي المقيم في أمريكا والمعروف باعتداله وانفتاحه.
ولم تسلم حتى مؤسسات الإغاثة والجمعيات الخيرية لمساعدة الفقراء والمحتاجين، من آثار هذه الحرب الشاملة، بل نالها نصيب وافر من التهم والإغلاق ومصادرة الأموال وتجميد الحسابات.

صحيح أن هناك استهدافاً في الأساس للأمة ودينها، لكن الصحيح أيضاً أن المتطرفين وفروا المبررات والذرائع، وأتاحوا الفرص، ومكنوا للأعداء، وفتحوا الثغرات ومنافذ الهجوم لهم.

الاربعاء 8 ذو القعدة 1424هـ الموافق 31 ديسمبر 2003م، العدد 11156