تجدّد الظاهرة الدينية في المجتمع الإنساني

 

يقول تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت، الآية: 53].

يُعرّف الباحثون (الظاهرة) في السياق الاجتماعي، أنها: التصرفات الإنسانية التي توجد على درجة معيّنة من الانتشار في المجتمع[1] .

فلا يطلق على الممارسات التي تحصل في نطاق ضيّق، أو مساحة محدودة من المجتمع، أنها ظاهرة اجتماعية.

ولأنّ مظاهر التديّن رافقت المجتمع البشري من بداية ظهوره، وتنتشر في مساحة واسعة منه في مختلف العصور والأجيال، لذلك يمكن القول: إنّ التديّن من أعماق وأوسع الظواهر الاجتماعية في التاريخ الإنساني.

يكاد يُجمع الباحثون والمؤرخون، أنهم لم يعثروا على مجتمع في أيِّ صقعٍ من أصقاع الأرض، أو أيِّ زمنٍ من أزمنة التاريخ، يخلو من معتقدات دينية وطقوس عبادية بشكل من الأشكال.

يقول مؤلفو (معجم لاروس للقرن العشرين): إنّ الغريزة الدينية مشتركة بين كلّ الأجناس البشرية، حتى أشدّها همجية وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وإنّ الاهتمام بالمعنى الإلهي، وبما فوق الطبيعة، هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية[2] .

ويقول (بلوتارك) المؤرخ الإغريقي الشهير: من الممكن أن نجد مدنًا بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب ولا مسارح، ولكن لم يُرَ قطّ مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها عبادة[3] .

منشأ النزعة الدينية

إنّ فطرة الإنسان وعقله يدفعانه للتأمل والتساؤل، حول وجوده ووجود العالم من حوله، كيف بدأ هذا الوجود؟ ومَنْ أوجده؟ وكيف ينتهي؟ وإلى أين ينتهي؟ وما معنى الحياة؟ ولماذا نموت؟ وماذا بعد الموت؟ وما هي العلاقة مع مصدر الخلق والوجود؟

هذه الأسئلة وأمثالها تلّح على ذهن الإنسان ونفسه، ويبحث عن إجابات عليها، وما يتوصل إليه من قناعات حولها، يصبح دينًا له.

ومن لطف الله تعالى بالإنسان، بعث الأنبياء والرسل الذين يهدون الناس للإجابات الصحيحة على تلك التساؤلات، بعيدًا عن الأوهام والتصورات الخرافية والمعتقدات الزائفة.

ويتفاوت مستوى حضور الظاهرة الدينية في المجتمع الإنساني قوة وضعفًا، لعوامل وأسباب مختلفة، لكنها لا تنتهي ولا تختفي بشكل مطلق.

قد تتراجع حالة التديّن ومظاهره الاجتماعية في بعض الأزمنة، لظهور تيارات قوية مناوئة للدين، أو لسوء تصرفات القيادات الدينية التي تخلق نقمة وردّ فعل في نفوس الناس تجاه الدين.

لكنّ الظاهرة الدينية غالبًا ما تتجاوز تلك الظروف الطارئة، وتتجدد من خلال المجتمع الذي لا يستغني عن وجودها.

ستبقى الديانات

يقول الدكتور (ماكس نوردوه): ستبقى الديانات ما بقيت الإنسانية، وستتطور بتطورها، وستتجاوب دائمًا مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة[4] .

ويقول عالم الاجتماعي (تالكوت بارسون): يتعذّر موت الدين لما له من دور وظيفي أساسي في تلبية احتياجات توازن النظام، في أوجهه الثلاثة: البيولوجية والنفسية والاجتماعية[5] .

ويقرر السوسيولوجي الأمريكي (روبرت هيفنر): أنّ الإشاعات حول زوال الدين هي في أقلّ تعبير عنها، محض مبالغة، وباتفاق السوسيولوجيين الآن على أنّ الدين أثبت صمودًا أكثر مما تنبّأ به أيّ أحد[6] .

ففي أوروبا ومع شدّة نقمة الناس على الكنيسة في العصور الوسطى والثورة التي حصلت ضدها، حتى ظنّ البعض ألّا تقوم للدين قائمة في المجتمعات الغربية التي شقت طريقها إلى التقدم والعلم والتكنولوجيا، لكنّ الحالة الدينية أعادت تموضعها وتكييف نفسها مع الواقع الاجتماعي الجديد.

ومن أبرز تجلّيات الظاهرة الدينية، أنّ التقويم العالمي السائد هو التقويم الميلادي الذي يرتبط بالاحتفاء بمناسبة دينية هي ميلاد نبي الله المسيح عيسى بن مريم .

العلم يدعو للإيمان

جاء في تقرير نشرته جريدة (الشرق الأوسط) في 25 نوفمبر 2021م أنّ 90% من العلماء الكبار الحائزين جائزة نوبل هم من المؤمنين بوجود خالق للكون.

وكلّما اطّلع علماء الطبيعة أكثر على أسرار الكون وحقائق الحياة، كانوا أقرب إلى الإصغاء لصوت الفطرة، ونداء العقل بالإيمان بالله تعالى، وذلك مصداق لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت، الآية: 53].

وقبل حوالي أربع سنوات صدر في شهر نوفمبر 2021م كتاب في فرنسا بعنوان (الله والعلم والبراهين فجّر ثورة) اشترك فيه 20 فيلسوفًا وعالمًا، وأثار ضجة كبرى، نشرت عنه تقريرًا جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 25 نوفمبر 2021م، وجريدة (الفيغارو) الفرنسية التي قالت عنه فور صدوره: هذا حدث هائل. أخيرًا العلم الفيزيائي الفلكي يتوصل إلى البرهنة على وجود الله.

مؤلفا الكتاب عالمان مفكران هما: (ميشيل - إيف بولوريه)، و(اوليفيه بوناسييس)، الذي كان ملحدًا ثم أصبح مؤمنًا.

استغرق تأليف هذا الكتاب الضخم، ثلاث سنوات متواصلة، وكتب مقدّمته البروفيسور (روبيرت ويلسون) أحد كبار مشاهير علم الفيزياء الأمريكيين من حملة جائزة نوبل.

وقد أصبح الكتاب من أفضل الكتب مبيعًا في فرنسا، رغم ضخامته، وارتفاع سعره.

وينطلق المؤلفان من أنّ الاكتشافات العلمية ذات الصلة بالنسبية، وميكانيكا الكم، وتعقيدات الكائنات الحية، والموت الحراري للكون، وبشكل خاص نظرية الانفجار العظيم، باتت كافية لقلب معتقدات وقناعات أيّ ملحد لا يؤمن بوجود الله[7] .

حضور الدين في ساحة الأمة

وفي مجتمعاتنا الإسلامية نشهد نموًا متصاعدًا للظاهرة الدينية، رغم الظروف الحرجة التي مرّت بها، بفعل ممارسات التطرف والإرهاب من قبل تيارات منتسبة للدين.

إنّ الساحة الدينية في مجتمعاتنا تزخر بكثير من الأنشطة والبرامج العبادية والثقافية والاجتماعية، بمشاركة مختلف شرائح المجتمع وفئاته، خاصة شريحة الشباب الذين كان الرهان كبيرًا على ابتعادهم عن الاهتمام بالدين في ظلّ ثقافة العصر المادية الجارفة، ورغم التحدّيات والأجواء المناوئة للدين على المستوى الدولي.

ولا يبدو أنّ أيّ ساحة دينية خارج المجتمعات الإسلامية تعيش مثل هذا المستوى من الزخم في البرامج والتفاعل الاجتماعي.

وتُظهر المناسبات والمواسم الدينية، وهي كثيرة في المجتمعات الإسلامية، مدى تفاعل الناس وتجاوبهم مع الاهتمامات والبرامج الدينية، كموسم الحج وشهر رمضان المبارك وأيام المولد النبوي الشريف، والمناسبات المذهبية الخاصة كموسم عاشوراء وسائر المناسبات المرتبطة بأهل البيت النبوي عند الشيعة، وأيام الموالد للرموز والشخصيات الدينية، التي تحتفي بها بعض المجتمعات الإسلامية، كأتباع الطرق الصوفية.

كما تمثل حشود ملايين المعتمرين طوال العام في الحرمين الشريفين، أروع المشاهد في الزخم والتفاعل الديني لجمهور الأمة، من مختلف الأقطار والأعراق والشعوب والمجتمعات الإسلامية.

ففي عام 2024م بلغ عدد المعتمرين على مدار العام نحو 35.8 مليون معتمر، حسب إحصاءات الهيئة العامة للإحصاء في المملكة[8] .

وأوضحت «الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي»، أنّ إجمالي أعداد قاصدي وزوار الحرمين الشريفين، خلال شهر جمادى الآخرة لعام 1447 هـ، بلغ 68 مليونًا[9] .

النمو والتقدم في الحالة الدينية

إنّ قسمًا من الدعاة تسود أجواءهم نظرة سلبية تشاؤمية تجاه الحالة الدينية في جمهور الأمة، حيث ينظرون إلى النصف الفارغ من الكأس، وأنّ هناك مسلمين يتراجعون عن الالتزام بدينهم ويستجيبون للاتجاهات المناوئة للدين، وما يحصل من انحرافات ومخالفات للأحكام الشرعية، وما يجري من مفاسد أخلاقية في مجتمعات المسلمين.

ولا يمكن إنكار كلّ ذلك ولا تبريره، لكنّ مسيرة الحالة الدينية عبر العصور كانت تواجه مثل هذه التحدّيات، حتى في أزهى عصورها، كالعصر النبوي وما تلاه من عصور الخلافة الإسلامية، وفي أزمنة حياة أئمة أهل البيت ، فقد كان هناك من يرتدّ عن الدين، وهناك اتجاهات زندقة وإلحاد وتشكيك، ومظاهر فساد وانحراف، ومعارك احتراب داخلي، وفتن دامية.

لكنّ ذلك لم يمنع استمرار مسيرة الدين، وتحقيق مختلف الإنجازات في حياة المسلمين، إنها عوائق وتحدّيات تقتضيها طبيعة الصراع الأبدي بين الخير والشر في هذه الحياة.

ويمكن القول بثقة إنّ حال التديّن اليوم أفضل وأقوى من الأمس، خلافًا لما يردده البعض من أفضلية حال التديّن في الماضي.

مواجهة التحدّيات بثقة وتفاؤل

ولا يعني ذلك إغفال التحدّيات والاستهانة بخطط الأعداء ومكائدهم، وتجاهل الثغرات ونقاط الضعف في الساحة الدينية، بل يعني الانطلاق في مواجهة كلّ ذلك بروح ثقة وتفاؤل، وبنظرة إيجابية متوازنة، تقدّر مكامن القوة وتنمّيها، وتشخّص نقاط الضعف وتسعى لتلافيها.

علينا أن ننظر بإيجابية إلى إقبال جمهور الأمة على الأجواء والبرامج الدينية المختلفة، وأن نستثمر ذلك في تعزيز الثقة بالدين وتعميق الوعي بمبادئه ومفاهيمه، وألّا نغفل عن التحديات والأخطار التي تستهدف هويتنا الدينية.

ولا بُدّ من تكثيف التوجيه والإرشاد إلى مضمون وغاية العبادات والشعائر الدينية، وهو الالتزام بالقيم والمبادئ الأخلاقية والسلوكية، كالعدل والإحسان والصدق والأمانة وتحمّل المسؤولية تجاه المجتمع والحياة.

ويجب الاهتمام أكثر بعلوم الطبيعة، ومعرفة أسرار الكون والحياة، والاستفادة من كلّ ذلك في عرض الدين، وإثبات مفاهيمه وأحكامه، فهي الطريق الأفضل لتثبيت الإيمان بالله، والثقة بدينه، كما يقول تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت، الآية: 53].

إنه ينبغي في خطابنا الديني اعتماد المنهج العقلي المنطقي، والبرهنة عن طريق التجارب والخبرات العلمية، فذلك أكثر قبولًا وتأثيرًا وجذبًا لأبناء الجيل المعاصر.

 

خطبة الجمعة 6 رجب 1447هـ الموافق 26 ديسمبر 2025م.

[1]  الدكتور عبدالحميد لطفي، علم الاجتماع، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط7، 1977م، ص22.
[2]  محمد بن عبد الله دراز، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، دار القلم للنشر والتوزيع ـ الكويت، ط1، 1952م، ص82.
[3]  الشيخ جعفر السبحاني، مفاهيم القرآن1 (معالم التوحيد في القرآن الكريم)، دار الأضواء، بيروت، ط2، 1404هـ، ج1، ص57.
[4]  بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، ص87.
[5]  سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي، علم الاجتماع الديني الإشكالات والسياقات، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، أبوظبي، ط1، 2011م، ص45.
[6]  مسفر القحطاني، مقدمات في علم الاجتماع الديني، مركز البحوث والتواصل المعرفي، الرياض، ط1، 2021م، ص31.
[7]  صحيفة الشرق الأوسط، العلم يبرهن على وجود الله للمرة الأولى - تقرير هاشم صالح، 25 نوفمبر 2021 م ـ 19 ربيع الثاني 1443 هـ.
[8]  وزارة الاقتصاد والتخطيط، قطاع العمرة، https://datasaudi.sa/ar/sector/umrah.
[9]  صحيفة الشرق الأوسط: أكثر من 68 مليون زائر ومعتمر بالحرمين الشريفين خلال شهر، 25 ديسمبر 2025 م ـ 05 رجب 1447 هـ.