العائلة أولًا

 

ورد عن أمير المؤمنين علي في توصيف علاقته بفاطمة الزهراء : «فَوَ اَللَّهِ مَا أَغْضَبْتُهَا، وَلاَ أَكْرَهْتُهَا عَلَى أَمْرٍ حَتَّى قَبَضَهَا اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ أَغْضَبَتْنِي، وَلاَ عَصَتْ لِي أَمْراً، وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَنْكَشِفُ عَنِّي اَلْهُمُومُ وَاَلْأَحْزَانُ»[1] .

حين يبدأ الإنسان مشوار حركته في الحياة، تتمحور اهتماماته حول مصالحه ورغباته الذاتية الفردية، فتكون مصلحة الذات ورغباتها هي مركز الاهتمام الأول في حياته.

وحين يرتقي إلى مستوى تكوين الأسرة فيصبح زوجًا أو زوجة، (وكلاهما يطلق عليه زوج في اللغة العربية) ثم ينجبان أولادًا، هنا يتغيّر مركز الاهتمام من الذات الفردية إلى الذات العائلية، فتكون العائلة هي مركز ومحور الاهتمام أولًا.

قبل الزواج يهتم كلٌّ من الزوجين بشأنه الذاتي الفردي، أما بعد الزواج يصبح كلٌّ منهما جزءًا من ذات الآخر في الاهتمام؛ لأنّ حال كلٍّ منهما يؤثر في الآخر، ومع وجود الأولاد يكتمل مثلث الاهتمام في حياتهما، فيكون اهتمام كلٍّ منهما مثلث الأبعاد: الذّات والزوج والأولاد.

شؤون الذات العائلية

لا يتحقق الارتياح النفسي عند كلٍّ من الزوجين حين يفقده الآخر، فإذا عاش أحدهما القلق أو الاكتئاب أو الحزن مثلًا، فإنه ينعكس على الآخر؛ لالتصاق حياتهما، كالتصاق اللباس بالجسم، حسب تعبير القرآن الكريم ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ. [البقرة: 187].

كما تنعكس الحال النفسية للوالدين على تربيتهما للأولاد، وتشير الأبحاث النفسية إلى تأثير الحال النفسية للأم على الجنين والرضيع، وفي كامل فترة الحضانة والتربية.

كذلك فإنّ ارتياح الأولاد أو انزعاجهم يترك أثرًا في نفس الوالدين.

من هنا فإنّ همّ الارتياح النفسي يتجاوز الذات الفردية ليشمل العائلة كلّها.

وتنطبق المعادلة ذاتها على جانب الصحة الجسمية، فاعتلال صحة أيّ ضلع من مثلث العائلة: الزوج أو الزوجة أو الأولاد، تنعكس آثاره على أوضاع المثلث كلّه.

لذلك من الطبيعي أن تتسع دائرة الاهتمام الصحي لكلٍّ من الزوجين بما يشمل العائلة كلّها.

وعلى الصّعيد الاقتصادي فإنّ الزوج معني بتوفير متطلّبات المعيشة والحياة لأفراد عائلته.

مركزية العائلة أساس فطري ديني

كلّ ذلك يؤكّد على محورية ومركزية العائلة في حياة الإنسان، انطلاقًا من هداية فطرته، وطبيعة خلقته السوية، فالانجذاب الزوجي، ونزعة الأبوة والأمومة، غرائز أودعها الله في نفس الإنسان، بل في ذوات سائر الكائنات الحيّة بدرجات متفاوتة، كما نلحظ في عالم الحيوانات التي تعيش حياة عائلية في إطارها الغريزي.

وجاءت الأديان الإلهية لتؤكّد على مركزية العائلة في حياة الإنسان، عبر تشريع الواجبات والحقوق المتبادلة بين أضلاع مثلث العائلة.

وعلى هدى الفطرة السوية، والتشريعات الإلهية، تجذّرت قيمة العائلة في المجتمعات الإنسانية، عبر الأعراف والتقاليد، والتنظيمات الاجتماعية التي تؤكّد مكانة العائلة وأولويتها في حياة الإنسان، حيث لا يزاحم اهتمام الإنسان بعائلته أيّ اهتمام آخر، وتقصيره في حقّها عيب ومذمّة في المحيط الاجتماعي.

الأنانية الفردية وتدمير الأسرة

لكنّ الحضارة المادية الحديثة تتبنّى ثقافة تضعف مكانة العائلة، وتهزّ قيمتها في نفس الإنسان، وذلك بالنفخ في روح الذات الفردية، وتحريض النزعة الأنانية، ودفع الإنسان للتفكير في ذاته أولًا، والاستجابة لرغباته، دون تقيد بالالتزامات والمسؤوليات العائلية.

وتسرّبت إلى مجتمعاتنا المحافظة، بعض العناوين البرّاقة، لهذه النزعات الأنانية، والأفكار السّلبية، فأصبح هناك من يروّج للعزوف عن الزواج بين الشباب والفتيات، وأصبحنا نسمع من بعض الأزواج والزوجات الحديث عن الاستقلالية، والشعور بالحرية، والخلاص من القيود والالتزامات.

إنّ بعض الرجال ينطلق مع رغباته وشهواته بما يؤثر على انسجامه العائلي، فيقيم علاقات عاطفية خارج الإطار الزوجي، مما يحطّم نفسية زوجته، ويسلبها الثقة فيه، ويهدّد كيان العائلة بالانهيار.

وبعضهم يصرف معظم وقته بعيدًا عن عائلته، يأنس بالسياحة والسفر، وجلسات السّمر والسّهر، مع أصدقائه وزملائه، على حساب إشباع عواطف زوجته وأبنائه، وإفاضة الحنان والرعاية عليهم.

وبعضهم قد يمارس البخل والتقتير على عائلته؛ لكسله عن توفير الموارد المالية، أو للشح بها عليهم، أو يطمع في دخل زوجته، لإلزامها بما ليس واجبًا عليها من النفقة على العائلة.

وبعضهم ينطلق مع انفعالاته السّلبية، ويمارس الهيمنة والقهر في علاقاته العائلية، فيغضب لأدنى سبب، ويضيق صدره عن تحمّل أقلّ خطأ، ويستخدم العنف اللفظي والجسمي بحقّ زوجته وأبنائه.

من جهة أخرى، نجد بعض الفتيات يعزفن عن الزواج، ويخترن العنوسة، هربًا من تحمّل المسؤوليات العائلية، وإيثارًا للراحة والحرية والفردية، وبعضهنّ يحتفلن بالطلاق، وبعضهن يرجّحن مكاسب ومصالح في الدراسة أو العمل على حساب نجاحهنّ العائلي.

وبعضهنّ يصعب عليها تقديم تنازلات للحفاظ على كيان العائلة، ولا يبدين استعدادًا لتحمّل بعض الثغرات والنواقص.

إنّ كلّ ذلك مصاديق لتضخّم نزعة الذات الفردية، وتراجع الاهتمام العائلي.

أولوية مصلحة العائلة

إنّ الانسجام وسعادة الحياة العائلية لا تتحقّق إلّا إذا كانت الأولوية لمصلحة الذات العائلية الجمعية، وذلك يقتضي الاستعداد للإيثار، وتقديم التنازلات على حساب الذات الفردية، أما إذا سادت بين الزوجين روح النّدية والصراع، ومحاولة إثبات الذات أمام الآخر، فذلك يعني تدمير الكيان العائلي.

وحين نقرأ النصوص والتوجيهات الدينية نرى التأكيد على أولوية مصلحة العائلة.

ورد عن النبي : «مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ يَعُولُ»[2] .

ويمكننا أن نفهم من الضياع معنى شاملاً، للضياع العاطفي والمالي والأخلاقي.

وجاء عن الإمام جعفر الصادق : «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ»[3] .

وعن رسول الله : «الْكَادُّ عَلَى عِيَالِهِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[4] .

وعنه : «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِ رِجَالِكُمْ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فعدّ أوصافًا منها: الْمُلْجِئَ عِيَالَهُ إِلَى غَيْرِهِ»[5] .

وعنه : «اَلْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ أَهْلِهِ، وَاَلْمُنَافِقُ يَأْكُلُ أَهْلُهُ بِشَهْوَتِهِ»[6] .

وفي الحديث توجيه إلى تقديم رغبات العائلة على الرغبات الشخصية، وأنّ ذلك من نهج وسلوك الإنسان المؤمن.

إنّ ما يتحدّث عنه الإمام علي في علاقته بفاطمة الزهراء ، حيث يقول: «فَوَ اَللَّهِ مَا أَغْضَبْتُهَا، وَلاَ أَكْرَهْتُهَا عَلَى أَمْرٍ حَتَّى قَبَضَهَا اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ أَغْضَبَتْنِي، وَلاَ عَصَتْ لِي أَمْرًا، وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَنْكَشِفُ عَنِّي اَلْهُمُومُ وَاَلْأَحْزَانُ»[7] ، يجب أن يكون أنموذجًا للحياة الزوجية القائمة على الرضا المتبادل، وتجنّب كلّ طرف ما يغضب الطرف الآخر.

 

خطبة الجمعة 10 ربيع الثاني 1444هـ الموافق 4 نوفمبر 2022م.

[1]  بحار الأنوار، ج43، ص124.
[2]  الكافي، ج4، ص12.
[3]  من لا يحضره الفقيه، ج3، ص168.
[4]  الكافي، ج5، ص88.
[5]  نفسه، ج2، ص292.
[6]  الكافي، ج4، ص12.
[7]  بحار الأنوار، ج43، ص124.