الإيمان وإثارة الفكر

 

يقول تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‎﴿٢١٩﴾‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [سورة البقرة، الآيتان: 219-220].

ميّز الله تعالى الإنسان على سائر مخلوقاته بقوة العقل، هذه القدرة الهائلة التي يتعرّف بها الإنسان على خالقه، ومن ثمَّ يدرك معنى حياته، وبالعقل يكتشف الإنسان أنظمة الكون وسنن الحياة، فيعمر الأرض، ويسخّر إمكانات الطبيعة للارتقاء بمستوى معيشته، وتطوير حياته.

إنّ كلّ ما حققه الإنسان من تقدّم عبر تاريخه الطويل، في المجال العلمي والصناعي والتكنولوجي وفي جميع المجالات، هو بفضل هذه القدرة العقلية التي منحها الله له.

(والأمر العجيب أنّ القدرة العقلية الجبّارة التي يتمتع بها الإنسان تحدث من خــلال المخ، الـذي لا يتجاوز وزنه 1.5 كيلو جرام، وهو بذلك لا يمثل سـوى ٢٪ من وزن الإنسان الطبيعي، ومـع ذلـك فـهـو يتألـف مـن خلايا عصبيـة يبلغ عددهـا نحـو ١٫٧ بليـون خليـة، متصلة ببعضها البعض عن طريق نحو 10.4 تريليون تشابك عصبي)[1] .

و(لو تم صفّ هذه الخلايا بشكل متصل في خطّ مستقيم، لغطّى مسافة تساوي المسافة بين الأرض والقمر، ذهابًا وإيابًا ثم ذهابًا)[2] .

و(تشير دراسة أجريـت عـلى مـخّ الإنسـان بأنـه أسرع بمقـدار 30 مـرة أكثـر مـن أسرع كمبيوتـر مـركـزي Super Computer موجود في العالم. كما تشير دراسـة أخـرى إلى أنّ ثانيـة واحـدة مـن التفكير في مخّ الإنسان تعادل عمـل ٨٢,٩٤٤ معالج مـن معالجات الكمبيوتر الفائقة السّرعة)[3] .

كيف يعمل العقل؟

يقوم العقل بمهمّته عبر عملية التفكير، التي تنطوي على عدد هائل من الأنشطة العقلية، مثل التذكر، والملاحظة، والتخيّل، والتقييم، والتحليل، والاستنتاج، وهي أنشطة ذهنية غير محسوسة، تحدث داخل مخّ الإنسان، لا يعرف الإنسان عن أسرارها إلّا شيئًا ضئيلًا، إنّ أيّ عملية تفكير يقوم بها الإنسان لاتّخاذ قرار وإن كان بسيطًا، تستلزم أنشطة ذهنية متعدّدة الأبعاد، تتم بسرعة لا يكاد يحسّ بها الإنسان، ولعلّ من أوضح تعريفات التفكير المتعدّدة أنه: (مجموعة من العمليات العقلية التي تحدث في مخّ الإنسان، ويتم فيها توظيف المهارات الذهنية للوصول إلى نتيجة ما).

وقد تكون النتيجة التي يصل إليها الإنسان من خلال تفكيره صحيحة أو خطأ، حيث يكون للمقدّمات والشّرائط والظّروف التي ترافق عملية التفكير، دور في صواب النتيجة وخطئها، أو نسبة الخطأ والصّواب فيها.

ويتفاوت أبناء البشر في مدى استفادتهم من عقولهم، فهناك من يستخدمون عقولهم بنسبة ضئيلة جدًّا، في أمور حياتهم العادية، وهناك من يستثمرون هذه القدرة الجبّارة الهائلة في مستوًى متقدّم، فيحقّقون الاكتشافات الباهرة، والاختراعات العظيمة، وتعامل الإنسان المعاصر مع الحاسب الآلي/ جهاز الكمبيوتر، يقدّم لنا مثلًا ونموذجًا على هذا الصّعيد، فإنّ الاستفادة من هذا الجهاز تختلف وتتفاوت من إنسان لآخر، بين من يستخدمه لإدارة حسابات بقالة صغيرة، ومن يستخدمه في إدارة شؤون دولة كبرى.

وكلّما استخدم الإنسان قواه العقلية أكثر، تحسّنت لديه مهارات التفكير، وأصبح أقدر على الاستفادة من عقله وتحقيق الإنجازات المختلفة.

فمهارات التفكير أشبه بالعضلات التي تقوى بممارسة الحركة والتدريب، وتضعف وتصاب بالضّمور لقلّة الحركة.

الدّين دعوة إلى التفكير

هناك ثلاثة عناصر مهمّة لاستفادة الإنسان من عقله وتنمية مهارات تفكيره:

العنصر الأول: الالتفات إلى قيمة هذا الكنز العظيم وإمكاناته الهائلة.

العنصر الثاني: الثقة بالعقل والرجوع اليه وإثارة قدراته.

العنصر الثالث: اتباع النّهج السّليم في التفكير لضمان الوصول إلى أفضل النتائج.

وهنا يأتي دور الإيمان في توجيه الانسان للاهتمام بهذه العناصر الثلاثة. فحين يؤمن الإنسان بالخالق المبدع الحكيم، فإنه يستحضر نِعَمَه، ويدرك أنّ الحياة تخضع لسنن وقوانين، وأنه مسؤول أمام خالقه عن تعامله مع نعم الله، وطريقة تصرّفه في هذه الحياة، كما يفكر في مآله بعدها، ومن المفترض أن يثير كلّ ذلك تفكيره للاستفادة القصوى من وجوده في الدنيا، ولضمان مستقبله في الآخرة. لذلك يقول تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‎﴿٢١٩﴾‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [سورة البقرة، الآيتان: 219-220].

وورد عن الإمام علي في حديثه عن بعثة الأنبياء: «وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ»[4] .

وفي ذلك يكمن سرُّ الآيات القرآنية المتكرّرة، حول التعقّل والتفكير، وسائر المفردات المرتبطة بالعمليات الذهنية، كالتذكر والتدبّر والتّفقه والنّظر.

ففي القرآن الكريم: 18 آية استخدمت مفردة الفكر والتفكّر، كقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم.

و59 آية استخدمت مفردة التعقّل، كقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ، ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

و83 آية استخدمت مفردة النّظر، كقوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

و20 آية استخدمت مفردة التفقّه، كقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ، ﴿لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، ﴿لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ، ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا.

وأكثر من 200 آية استخدمت مفردة التذكر، كقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ، ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.

وهناك آيات استخدمت مفردات أخرى ذات صلة بعملية التفكير، كالتدبّر والتبصّر والرؤية، في مجال الأمور النظرية.

ممارسة التفكير مؤشّر ومعيار

إنّ هذا العدد الكبير من الآيات القرآنية، حول التعقّل وعمليات التفكير، تؤكّد على أنّ أهمّ أثرٍ وتجلٍّ للإيمان والتديّن في حياة الإنسان، هو ممارسته للتفكير في أمور دينه ودنياه، وفي الجوانب المادية والمعنوية.

إنّ الإيمان الحقيقي يجب أن يدفع الإنسان إلى أكبر قدرٍ من استخدام العقل، وممارسة التفكير.

وكلّما تضاءل نشاط الإنسان الفكري العقلي انخفض مستوى إيمانه، ولا يعوّض ذلك كثرة عبادته.

فقد ورد عنه : (إِذَا بَلَغَكُمْ عَنْ رَجُلٍ حُسْنُ حَالٍ فَانْظُرُوا فِي حُسْنِ عَقْلِهِ فَإِنَّمَا يُجَازَى بِعَقْلِهِ)[5] .

وعنه : (فِكْرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ)[6] .

وورد عن الإمام الحسن : (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَإِدَامَةِ اَلتَّفَكُّرِ فَإِنَّ اَلتَّفَكُّرَ أَبُو كُلِّ خَيْرٍ وَأُمُّهُ)[7] .

 

خطبة الجمعة 12 شوال 1443هـ الموافق 13 مايو 2022م.

[1]  صلاح الفضلي: فنّ التفكير، (دار روافد للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1438هـ) ص16.
[2]  عثمان حمود الخضر: التفكير أساليب ومهارات، (آفاق للنشر والتوزيع، الكويت، ط4، 1440هـ) ص22.
[3]  فنّ التفكير، ص17.
[4]  نهج البلاغة، ومن خطبة له يذكر فيها ابتداءَ خلق السماءِ والاَرض، وخلق آدم ، رقم 1.
[5]  الكافي، ج1، ص12.
[6]  بحار الأنوار، ج6، ص133.
[7]  مجموعة ورّام (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر)، ج1، ص52.