الحياء شيمة نبوية

 

عن أبي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت"[1].

الفطرة السّوية للإنسان تدفعه إلى اجتناب الظهور بالسّوء والمعايب أمام الآخرين، وهو ما يطلق عليه عنوان الحياء.

حيث يستحي الإنسان، وتنقبض نفسه، ويبدو أثر ذلك الانقباض على قسمات وجهه، أن يراه الناس بصفة معابة، أو أن يصدر منه قول أو سلوك معيب.

وقد تختلف ثقافات الناس في بعض التفاصيل مما يستنقصون ويستعيبون، لكنّ هناك قيمًا أساس يتفق عليها بنو البشر، فيخجل الإنسان مثلاً أن يظهر كاذبًا أو خائنًا أو سارقًا.

لكنّ بعض الناس قد ينحرفون عن فطرتهم السّويّة، فلا يتوقفون عن ممارسة المعايب والمساوئ، ولا يبالون بنظرة الناس إليهم. وهذا ما يطلق عليه (وقاحة). فالوقح هو من قلَّ حياؤُه واجترأ على فعل القبائح ولم يعبأْ بها.

وحين يتسافل الإنسان إلى هذا المستوى فإنّه لا يبالي بما يفعل من القبائح، وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف، عن رَسُولُ اللَّهِ : "إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت"[2]، فإذا فقد الإنسان الحياء يتوقع منه كلّ قبيح.

خلق الحياء

إنّ خلق الحياء حينما يتصف به الإنسان يدفعه إلى التزام مكارم الأخلاق واجتناب الرذائل والمساوئ، واحترام الذوق العام.

ورد عن علي : اَلْحَيَاءُ يَصُدُّ عَنِ اَلْقَبِيحِ"[3].

لذلك حث الدين على الاهتمام بخلق الحياء، وأكّدت تعاليمه على نشر ثقافة هذا الخلق.

فقد ورد عن النبي : «اَلْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ اَلْإِيمَانِ»[4]

وعنه : "اَلْحَيَاءَ زِينَةُ"[5].

وورد عن الإمام الصادق : "لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ حَيَاءَ لَهُ"[6].

والحياء درجات، والدرجة الأولى منه عدم ارتكاب المعائب، ومن أعلى درجاته عدم خدش مشاعر الآخرين وعدم التقصير في احترامهم والإحسان إليهم. فيستحي أن يبدي الاستثقال من أحد، وإن كان ذلك يحمّله أذًى، ويستحي أن يردّ طلبًا يمكنه القيام به وإن كان بمشقّة عليه، كما يستحي أن يقصّر في الضيافة وحسن الجوار وحسن الخطاب حتى للمسيء.

النبي شيمته الحياء

وقد كان رسول الله في هذه الدرجة العليا من الحياء، وقد تحدّث القرآن الكريم عن تحمّل رسول الله للأذى من تصرفات بعض من حوله بسبب حيائه، فقد كان بعضهم يأتي إلى دار رسول الله في كلّ وقت، ويدخل من دون استئذان، ويبقى منتظرًا تهيئة طعام بيت النبي ، وبعد تناول الطعام يطيلون المكوث على حساب وقت رسول الله وراحته، وكان لحيائه يخجل أن يردّ أحدًا منهم أو يأمره بالخروج وإن طال بقاؤه، لذلك نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ[7]

ويصف الإمام علي : مجلس رسول الله ، قائلًا: "مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ"[8].

وفي مناقب ابن شهرآشوب عن الإمام الحسن بن علي سبط رسول الله، أنه وصف جدّه في انتسابه إليه بقوله: "أَنَا اِبْنُ اَلنَّبِيِّ اَلْمُصْطَفَى وَأَنَا اِبْنُ مَنْ عَلاَ اَلْجِبَالَ اَلرَّوَاسِيَ وَأَنَا اِبْنُ مَنْ كَسَا مَحَاسِنَ وَجْهِهِ اَلْحَيَاءُ"[9].

وجاء عن الإمام الصادق : في وصف النبي : «شِيمَتُهُ الْحَيَاءُ»[10]

وعن أنس: "كَانَ لَا يَكَادُ يُوَاجِهُ أَحَدًا فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ"[11].

وعن أبي سعيد الخدري: كانَ رسولُ اللهِ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ في خِدْرِهَا[12].

وعن أبي سهل بن سعد: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ حَيِيًّا لاَ يُسْأَلُ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَى[13].

الحياء المذموم

لكن هناك موارد لا ينبغي فيها الحياء، وذلك حين يكون الحياء مانعًا من التقدم إلى الخير، أو سببًا للوقوع في الشر.

فقد روى الإمام جعفر الصادق عن جدّه رسول الله أنه قال: "اَلْحَيَاءُ عَلَى وَجْهَيْنِ فَمِنْهُ ضَعْفٌ وَمِنْهُ قُوَّةٌ"[14].

وفي حديث آخر عنه قال: اَلْحَيَاءُ حَيَاءَانِ: حَيَاءُ عَقْلٍ وَحَيَاءُ حُمْقٍ، فَحَيَاءُ اَلْعَقْلِ هُوَ اَلْعِلْم،ُ وَحَيَاءُ اَلْحُمْقِ هُوَ اَلْجَهْلُ"[15].

ومن أبرز الموارد التي لا يستحسن فيها الحياء: التعلّم.

ورد عن علي : "ولَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَه"[16].

وقالت عائشة: "نِعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهنّ الحياء أن تتفقهنّ في الدين"[17].

كما لا يجوز للإنسان أن يجيب عن سؤال لا يعرف جوابه، بسبب حيائه من أن يقول: لا أدري، أو لا أعلم. فيفتي بدون علم.

يقول الإمام علي : "ولَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ، أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ"[18].

وفي هذا السّياق جاء في سيرة الإمام مالك أنّ رجلًا سأله عن مسألة، فقال لا أدري، فقال: سافرت البلدان إليك، فقال: ارجع إلى بلدك وقل: سألتُ مالكًا فقال: لا أدري"[19].

ثقافة التمرّد على القيم

نعيش في عصر تشيع فيه ثقافة أنانية متطرّفة، تدفع الإنسان للاستجابة لغرائزه وشهواته دون حدود وقيود، بعنوان ممارسة الحرية الشخصية، وهي ثقافة تتبنّاها الحضارة المادية الغربية، وتريد عولمتها على حساب سائر الثقافات والحضارات.

وضمن هذه الثقافة يُراد وأد خلق الحياء، حتى يدفعوا أبناء الثقافات والحضارات المختلفة إلى التخلي عن ثقافتهم وحضارتهم.

إننا بحاجة للاستفادة من الحضارة الغربية في الجوانب العلمية والصناعية والتكنولوجية، لكنّ ذلك لا يعني استيراد كلّ عاداتهم وأخلاقهم على حساب انتمائنا الديني والحضاري.

ونحتاج هنا إلى التأكيد على خلق الحياء، وأن نربّي أبناءنا وبناتنا على هذا الخلق الإنساني، ليحترموا تعاليم وشعائر دينهم والقيم الإنسانية النبيلة، والأعراف والعادات الاجتماعية الصالحة.

ومن المؤسف أن نجد أناسًا يندفعون لممارسات صادمة للأخلاق والتقاليد ومنافية للذوق العام. مما دفع الجهات الرسمية في بلادنا لإصدار لائحة الذوق العام، وأصدرت وزارة الداخلية الضوابط الخاصة بتطبيق اللائحة التي تتضمّن فرض غرامات على المخالفين.

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=KEdZlOL_LEo

للاستماع:

https://www.saffar.me/index.php?act=av&action=view&id=1461

خطبة الجمعة 20 شعبان 1442هـ الموافق 2 أبريل 2021م.
[1] صحيح البخاري، ج2، ص411، ح3483.
[2] صحيح البخاري، ج2، ص411، ح3483.
[3] عيون الحكم والمواعظ، ص28.
[4] الشريف الرضي: المجازات النبوية، ص106.
[5] مستدرك الوسائل، ج1، ص488.
[6] الكافي، ج6، ص460.
[7] سورة الأحزاب، الآية: 53.
[8] الشيخ الصدوق: معاني الأخبار، ص81.
[9] المناقب، ج4، ص12.
[10] الكافي، ج1، ص444.
[11] سنن أبي داود، ح 4789.
[12] البخاري، ح3562.
[13] رواه الدارمي، ج1، ص211. وفي مكارم الأخلاق (إِلاَّ أَعْطَاهُ)، ص17.
[14] الشيخ الصدوق: الخصال، ج1، ص55، ح76.
[15] وسائل الشيعة، ج12، ص169.
[16] نهج البلاغة، حكمة رقم: 82.
[17] صحيح مسلم، ح322.
[18] نهج البلاغة، حكمة رقم: 82.
[19] صيد الخاطر، ص 189.