على عالم الدين ألا يصادر شخصيات من حوله

مصادرة شخصيات الآخرين والموقف النبوي

 

كل إنسان في هذه الحياة تتشكل عنده قناعات، وتتكون له رغبات وتطلعات، وقد منحه الله الإرادة والاختيار ليعمل وفق قناعاته ولتحقيق رغباته وتطلعاته.

يقول تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ أي على طبيعته وتوجهه، ورد عن الإمام الصادق : "يَعْنِي عَلَى نِيَّتِهِ". [الكافي، ج2، ص16]

لكن هناك حدين يجد الإنسان نفسه معنيًا بمراعاتها في حركته وعمله، وهما حد الالتزام الديني، وحد النظام والقانون، فلا ينبغي له أن يخالف أحكام الدين والمبدأ الذي يدين به، ولا أن يتمرد على النظام والقانون الذي تفرضه طبيعة الحياة الاجتماعية.

وفيما عدى هذين الحدين فهو يتمتع بحريته واختياره في تسيير أمور حياته وتلبية رغباته.

لكن الإنسان قد يجد تعويقًا وتقييدًا لحريته من قبل آخرين يصادرون شخصيته، ويمنعونه من تحقيق رغباته وتطلعاته، إما بممارسة القوة والقهر عليه، بحيث لا يتمكن من ممارسة حريته، أو بفرض الوصاية عليه، بأن يفكروا بديلًا عنه ويتخذوا القرارات له خلافًا لرغبته، فيسلبونه أهلية اتخاذ القرار، أو يمنعونه من ممارسة ما يقرر لنفسه، بدعوى أنهم أعرف منه بمصلحته، وأولى بتحديد رغباته.

وهذا يصح بالنسبة للقاصر سنًا أو عقلًا من قبل من له الولاية عليه في إطار مصلحته. إما بالنسبة للبالغ الرشيد فلا ولاية لأحد عليه حتى لأقرب القريبين منه.

يصادرون شخصيات الآخرين

يحدث أن بعض من يملكون قوة في الشخصية يحاولون أن يصادروا شخصيات من حولهم، ويمنعونهم من تحقيق رغباتهم ويسلبونهم حق القرار لأنفسهم، وقد يكون ذلك عبر الضغط النفسي والاجتماعي. وكما قيل المأخوذ حياءً كالمأخوذ غصبا، وهذا خطأ كبير من الناحية الشرعية ومن الجانب الإنساني والتربوي.

إنه حرام من الناحية الشرعية لأنه اعتداء على حق الغير وسبب أذى له، إما في الجانب الإنساني والتربوي، فهو يضعف ثقة الآخر بنفسه، ويشعره بالضعف والمهانة، وينتج له عقدًا نفسية، وقد يربك حياته.

النموذج النبوي

وحين نقرأ السيرة النبوية نجد أن النبي ومع عظمة شخصيته، ومقام ولايته، حيث يقول تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ، إلا أنه لم يكن يمارس هذا المقام إلا في مجال تطبيق الأحكام الشرعية وشؤون إدارة نظام المجتمع، ويترك لمن حوله فرصة اتخاذ القرارات الشخصية لأنفسهم، ولا يفرض قوة شخصيته عليهم.

وحتى في مجال تبليغ الرسالة فإن الله قد حدد لنبيه دور الدعوة والتذكير فقط، دون ممارسة الهيمنة والسيطرة، يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴿٢١﴾ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، ويقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا، ويقول تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.

وأمامنا بعض الأمثلة والنماذج:

1/ أنَّ رَسولَ اللَّهِ أُتِيَ بشَرَابٍ فَشَرِبَ منه، وعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ [قيل إنه ابن عباس]، وعَنْ يَسَارِهِ الأشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أتَأْذَنُ لي أنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الغُلَامُ: واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، لا أُوثِرُ بنَصِيبِي مِنْكَ أحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسولُ اللَّهِ في يَدِهِ. [البخاري، ح5620]

2/ استدان رسول الله من رجل بعيرًا في سن معين، وقال له: إذا جاءت أبل الصدقة قضيناك، فلما جاءت أبل الصدقة، أمر النبي أبا رافع أن يقضي الرجل دينه، فلم يجدوا فيها إلا فوق سن بعيره، فأغْلَظَ الرجل في كلامه للنبي ، فَهَمَّ به أصْحَابُهُ، فَقالَ : دَعُوهُ، فإنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا، واشْتَرُوا له بَعِيرًا فأعْطُوهُ إيَّاهُ وقالوا: لا نَجِدُ إلَّا أفْضَلَ مِن سِنِّهِ، قالَ: اشْتَرُوهُ، فأعْطُوهُ إيَّاهُ، فإنَّ خَيْرَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً.[ البخاري، ح2390]

3/ عن ابن عباس: أنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كانَ عَبْدًا يُقَالُ له مُغِيثٌ، كَأَنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي ودُمُوعُهُ تَسِيلُ علَى لِحْيَتِهِ، فَقالَ النبيُّ لِعبَّاسٍ: يا عَبَّاسُ، ألَا تَعْجَبُ مِن حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، ومِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا فَقالَ النبيُّ : لو رَاجَعْتِهِ قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قالَ: إنَّما أنَا أشْفَعُ قالَتْ: لا حَاجَةَ لي فِيهِ. [البخاري، ح5283]

بريرة بنت صفوان نبطية أو قبطية كانت جارية لناس من الأنصار، وقد صنف العلماء في قصتها تصانيف، وبعضهم أوصلها إلى 400 فائدة. وقد أعتقت فخيّرت في زوجها فاختارت نفسها.

الدرس الأخلاقي

إن الدرس الأخلاقي الذي يجب أن نأخذه من مثل هذه المواقف النبوية هو ألا نستغل موقعنا في مصادرة شخصيات من حولنا، ولا نعطي لأنفسنا الحق في التدخل في شؤون حياتهم الخاصة، نعم يمكننا تقديم المشورة والنصيحة والرأي لهم، دون ممارسة ضغط عليهم يسلبهم حرية الإرادة والاختيار.

إن على الآباء والأمهات أن يحترموا شخصيات أبنائهم البالغين الراشدين، فلا يتدخلوا في قراراتهم إلا ضمن حدود النصيحة.

عَنِ اِبْنِ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ: قُلْتُ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ اِمْرَأَةً وَإِنَّ أَبَوَيَّ أَرَادَا غَيْرَهَا قَالَ «تَزَوَّجِ اَلَّتِي هَوِيتَ وَدَعِ اَلَّتِي هَوِيَ أَبَوَاكَ». [تهذيب الأحكام، ج7، ص392]

يقول السيد أبو القاسم الخوئي (1317 ـ 1413ﻫ): «لم ينهض دليل على وجوب إطاعة الوالدين على سبيل الإطلاق، على حدّ إطاعة العبد لسيِّده.

نعم، تجب المعاشرة الحسنة، والمصاحبة بالمعروف، على ما نطقت به الآية المباركة، فلا يجوز العداء والإيذاء، وأمّا الوجوب والتحريم بمجرّد الأمر والنهي، فضلًا عن لزوم الاستئذان في كافّة الأفعال، وإن لم يترتّب على تركه الإيذاء، خصوصًا لو صدر من غير اطّلاع منهما أصلًا، فهو عارٍ عن الدليل.

أجل قد ورد في بعض النصوص: أنه إنْ أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، ولكن أحدًا لا يستريب في أنّ هذا حكم أخلاقي، وليس بتكليف شرعيّ كما هو واضح جدًا». [مستند العروة الوثقى، كتاب الصلاة. ج8، ص106]

ويقول السيد محمد الشيرازي (1347 ـ 1422ﻫ): «إنّ القدر المتيقّن من الأدلة حرمة المخالفة التي تؤدي إلى أذيتهما فيما لا يتضرّر به الولد، فالأذية مع تضرّره أيضًا لا دليل على حرمتها». [الفقه ج28، كتاب الصلاة ص103]

وبين الزوجين يجب لكل منهما أن يحترم خصوصيات الآخر. ولا يصادر أحدهما شخصية الآخر.

ونجد أن هناك نصًا روائيًا حول مراعاة رغبات الأهل في الطعام والشراب، قال رسول اللّه : اَلْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ أَهْلِهِ وَاَلْمُنَافِقُ يَأْكُلُ أَهْلُهُ بِشَهْوَتِهِ". [الكافي: ج 4 ص 12 ح 6]

وعلى الصعيد الاجتماعي فإن الشخصية الاجتماعية ذات النفوذ كعالم الدين، عليه أن يقتدي بالنبي في احترام شخصيات من حوله وعدم مصادرة شخصياتهم.