الرعاية النبوية للفقراء

لا يحتاج الفقير إلى الدعم والعون المالي لتسيير أمور حياته فقط، بل يحتاج أيضاً إلى إظهار التعاطف والمساندة النفسية، حتى لا يشعر في نفسه بأيّ نقص بسبب فقره، لذلك ينهى الإسلام عن ممارسة أيّ نوع من التمييز الطبقي بين الناس على أساس قدراتهم الاقتصادية.

فلا يصح أن يُنظر للفقير بدونية، وأن يفرّق بينه وبين المتمكنين ماليًّا في التعامل والاحترام.

ورد عن الإمام الصادق عن آبائه عن رسول الله قال: «مَنِ اِسْتَخَفَّ بِفَقِيرٍ مُسْلِمٍ فَقَدِ اِسْتَخَفَّ بِحَقِّ اَللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْتَخِفُّ بِهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ»[1].

لذلك فإنّ النبي يقول في حديث روته مصادر السنة والشيعة: «أمَرَني رَبّي بِسَبعِ خِصالٍ: حُبِّ المَساكينِ وَالدُّنُوِّ مِنهُم»[2] ، في إشارة إلى تأكيد المشاعر الإيجابية تجاه الفقراء، وألّا يكون فقرهم سببًا لإقصائهم اجتماعيًّا.

ونجد في سيرة رسول الله اهتمامه الكبير ورعايته المتميزة للفقراء والمساكين.

أهل الصُفَّة

ونتحدث عن تجربة بارزة في السيرة النبوية على هذا الصعيد هي تجربة (أهل الصُفَّة).

والصُفَّة هي الظُلة، أي المكان الذي له سقف، وليس له جدران من كلّ جوانبه كالمظلات أمام البيوت.

فحينما بنى رسول الله المسجد الشريف في المدينة المنورة بعد هجرته إليها سقف الجزء الأمامي من جهته الشمالية، جهة القبلة نحو بيت المقدس بجريد النخل، والقسم الأكبر ظلّ مكشوفًا، فلما تحولت القبلة إلى الجهة الجنوبية باتجاه الكعبة، بقي هذا المكان المظلل شمالًا وأصبح مؤخرة المسجد.

وحينما بدأ توافد المسلمين المهاجرين من مكة والوافدين من مناطق أخرى، استوعب الأنصار من أهل المدينة أكثرهم في بيوتهم، لكنّ بعضهم لم يجد من يستوعبه، ولم يكن له مال، ولم يتيسر له عمل كمصدر دخل، فكان رسول الله يسكنهم في هذا المكان من المسجد (الصُفَّة) وعرفوا بأهل الصُفَّة.

جاء عن أبي هريرة أنّ (أَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإسْلامِ، لا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ، وَلا مَالٍ، وَلا عَلَى أَحَدٍ)[3].

وكان من ينزل في الصُفَّة يقيم فيها حتى يجد له مكانًا أو عملًا فيغادرها.

لذلك كان عددهم يختلف من وقت إلى آخر. فربما اجتمعوا فكثروا، وربما تفرقوا لغزو أو سفر، أو استغناء فقلوا. ويبدو أنّ متوسط عددهم كان حوالي السبعين يزيدون وينقصون. ومجمل عددهم بحدود أربعمئة حسب ما ورد في كتب السيرة.

توفير متطلبات حياتهم

لم تكن هناك موارد ثابتة عند رسول الله للصرف عليهم، فكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها.

وكان أصحاب حقول النخيل من أهل المدينة يساهمون في إطعامهم، فكان الرجل منهم يأتي بالقِنْو والقِنوين، يضع ذلك في المسجد لأهل الصُفَّة. (القِنْو: العذق).

وكان رجال من الأنصار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد لاستخداماتهم، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء.

رعاية النبي لهم

ولم يكن النبي يغفل عنهم مطلقًا، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، وقد طلب من ابنته فاطمة أن تتصدق عليهم لما ولدت الحسن بوزن شعره من الفضة. وقد جاءه مرة سبْيٌ فسألته ابنته فاطمة ومعها علي خادمًا لأنها تعبت من كثرة أعمالها وكلّت فأجابها : «لَا أُعْطِيكُمْ، وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَلَوَّى بُطُونُهُمْ مِنَ الْجُوعِ"، وقال: «لَا أُخْدِمُكُمَا، وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَى»[4].

وقد أوصى النبي الصحابة بالتصدق على أهل الصفة، فجعلوا يصلونهم بما استطاعوا من خير، فكان أغنياء قريش والأنصار يبعثون بالطعام إليهم، وكان النبي يوزع أهل الصفة بين أصحابه بعد صلاة العشاء ليتعشّوا عندهم، ويقول: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ، أَوْ سَادِسٌ،... فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ بِعَشَرَةٍ»[5].. ويبدو أنّ الأمر كان كذلك في بداية الهجرة، فلما جاء الله بالغنى لم تعد هناك حاجة لتوزيعهم على دور الصحابة.

لم يكن لأهل الصُفَّة من الملابس ما يقيهم البرد أو يسترهم سترًا كاملًا، فليست لهم أردية فمنهم من تغطى بما يبلغ نصف الساقين وأحيانًا قد لا يبلغ الركبتين. وسرعان ما كانت تتسخ ملابسهم فجوانب الصُفَّة مكشوفة للهواء والتراب.

معاناة الجوع

كان جلّ طعامهم التمر فكان النبي يجري لكلِّ رجلين منهم مدًّا من تمر في كلّ يوم، وقد اشتكوا من أكل التمر وقالوا إنه أحرق بطونهم، لكن النبي لم يستطع أن يوفر لهم طعامًا غيره فصبّرهم وواساهم. وكان كثيرًا ما يدعوهم إلى الطعام في بيته.

وكان قد قدّم لهم مرة صحفة فيها صنيع من شعير وقال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَمْسَى فِي آلِ مُحَمَّدٍ طَعَامٌ لَيْسَ شَيْئًا تَرَوْنَهُ»[6].

في بعض الأحيان ما كانوا يحصلون على ما يمسك رمقهم، فكان بعضهم يخرّ في صلاته لما به من الجوع.

برامج التأهيل

وقد ألِف أهل الصفة الفقر والزهد، فكانوا دائمي الجلوس في المسجد، يصلون ويتدارسون آيات القرآن ويذكرون الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة، حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ لأنه كان يعلّمهم القرآن والكتابة.

وقد استفادوا من تواجدهم في المسجد النبوي، وحضورهم المكثف في مجلس رسول الله ، فكسبوا المعرفة الدينية، وأصبح بعضهم في مستوى من الفضل، ومن رواة حديث رسول الله، كما شاركوا في معارك الجهاد، وحظي بعضهم بالشهادة في سبيل الله.

وكان التوجيه النبوي يدفعهم إلى العمل والكدح، وحينما تتوفر فرصة عمل لأحدهم كان ينتهزها.

تدوين تجربة أهل الصُفَّة

هناك كُتب ألفت حول الصُفَّة وأهلها، وأفردت لها فصول في بعض كتب السيرة والتاريخ، تتناول تجربة حياتهم الرائعة، باستقصاء عددهم، وتدوين أسمائهم، وجمع شتات أخبارهم وأحمالهم، ومشاركاتهم.

وأقدم من أفرد كتابًا في أهل الصفة هو أبو عبدالرحمن محمد بن الحسين السلمي النيسابوري (ت 412هـ) في كتابه (تاريخ أهل الصفة)، ومن المتأخرين ألف تقي الدين السُّبكي (ت 756هـ) كتابًا عنهم سماه: (التحفة في الكلام على أهل الصفة)، وألف شمس الدين السخاوي رسالة بعنوان "رجحان الكفة في أخبار أهل الصُفَّة". كما عقد السمهودي مقالًا عن أهل الصفة جمع فيه الروايات المتناثرة في كتب الحديث والتاريخ والجغرافية ومعاجم اللغة.

الدروس والعبر

ويهمنا من قراءة هذه التجربة الفريدة في السيرة النبوية، أن نستلهم منها الدروس والعبر، ومن أهمها ما يلي:

1/ أن نستحضر المعاناة الكبيرة التي تحملها النبي وأصحابه في تأسيس كيان الإسلام وإقامة دعوته، فنقدّر تلك الجهود والتضحيات.

وقد أشار الإمام زين العابدين علي بن الحسين في دعائه في الصلاة على أتباع الرسل، إلى هذه الجوانب من معاناة وتضحيات أصحاب رسول الله ، ومما جاء في هذا الدعاء من الصحيفة السجّادية الفقرات التالية:

«اَللَّهُمَّ وَأَصْحَابُ مُحَمَّد خَاصَّةً الَّـذِينَ أَحْسَنُوا الصَّحَابَةَ، وَالَّذِينَ أَبْلَوْا الْبَلاَءَ الْحَسَنَ فِي نَصْرِهِ، وَكَانَفُوهُ وَأَسْرَعُوا إلَى وِفَادَتِهِ وَسَابَقُوا إلَى دَعْوَتِهِ واسْتَجَابُوا لَهُ حَيْثُ أَسْمَعَهُمْ حجَّةَ رِسَالاَتِهِ، وَفَارَقُوا الازْوَاجَ وَالاوْلادَ فِي إظْهَارِ كَلِمَتِهِ... وَاشكُرْهُمْ عَلَى هَجْرِهِمْ فِيْكَ دِيَارَ قَوْمِهِمْ، وَخُرُوجِهِمْ مِنْ سَعَةِ الْمَعَاشِ إلَى ضِيْقِهِ».

2/ إنّ اهتمام النبي البالغ بأهل الصُفَّة، يشير إلى أنّ قيادة المجتمع يجب أن تحمل هم حياة الفقراء، وتجعله في طليعة اهتماماتها.

3/ إنّ توجيهات النبي لأصحابه باستيعاب المهاجرين واستضافة أهل الصُفَّة وتقديم الطعام والخدمات لهم في مختلف جوانب حياتهم حسب الإمكانات المتاحة، تعني أنّ هذا هو النهج الذي يجب أن يلتزم به المجتمع الإسلامي في كلّ عصر بمواساة الفقراء والمحتاجين.

وأن تكون هناك ثقافة تحفّز أبناء المجتمع لتحمّل مسؤولياتهم الإنسانية تجاه الفقراء والمعوزين.

4/ إنّ التعامل باحترام وتقدير لأهل الصُفَّة من قبله وقوله إنّ الله أمره بحب المساكين والدنو منهم، يؤكد ضرورة المساندة النفسية للفقراء وإشعارهم بالاحترام والتقدير.

5/ تناقص أعداد أهل الصُفَّة، بسبب وضع البرامج لتأهيلهم العملي وتوفير الخبرات التعليمة والعلمية لهم كتعليم الكتابة ورواية الحديث والمشاركة في المعارك، بحيث تخرج منهم رواة ومجاهدون يشير إلى أهمية اعتماد برامج التأهيل للأسر الفقيرة.

 

 

[1] وسائل الشيعة، ج12، ص266، ح4
[2] الاصول الستّة عشر، ص75.
[3] البخاري، ح6452.
[4] مسند ابن حنبل، ح582.
[5] البخاري، ح570.
[6] الطبقات الكبرى، ج1، ص197.