كيان واحد

 

 

جلس على كرسي الطائرة منفرداً، بجسده الهزيل، ووجهه الشاحب الأصفر. يشاهد غيوم السماء من نافذتها، في أعماقه رغبةً بأن تكون هذه الرحلة باب وداع مرضه، الذي جعله كالمشرد بين أرورقة المستشفيات.

هبطت الطائرة بمطار كيرلا، واتجه محمد بتوتر إلى موعده المعد مسبقاً في إحدى مستشفياتها هناك حاملا معه حقيبة تحوي حصاد سنة من تقارير المختصين من الأطباء وعلبا تنوعت ألوانها من الدواء.

مشكلته بدأت بسيطة بصداع تلاها غثيان وصعوبة تنفس وانتهت بألم كالسياط داخل معدته. اللتهاب بالقولون كان تشخيص مختص الطب العام، وقرحة بالمعدة تشخيص مختص الباطنية، وانسداد في أحد الشرايين تشخيص مختص القلب. وحالة إكتاب شديدة ما شخص به الطبيب النفسي، ونوعاً من مس الشيطان يحتاج إلى أحراز قرآنية ما قاله آخر شيخ مر به.

تعدد العلاجات افترس ما بقى من صحته كحقل تجارب لم تفرز بنتيجة غير اقتراب أجله، قالها وبدأ يجهش بالبكاء. اقترب الطبيب الهندي منه وهدأ حالته، وطلب منه تغيير ملابسه لتقام له تحاليل طبية شاملة ممتدة حتى نهاية اليوم لكل أعضاء بدنه، تظهر نتائجها صباح الغد.

ليل المستشفيات طويل خاصة إذا كانت الأفكار تطحن عقل المريض بانتظار نتيجة فحوصاته. استيقظ محمد على صوت خطوات أرجل قادمة نحوه، التفت برأسه وإذا ب 8 أطباء مجتمعين حوله. فتيقن أن مرضا عضالا ما يعانيه، وراحت تتأكل أحلامه بالشفاء، أحلامه التي علقها بسحب السماء.

مرت لحظات من الصمت المرعب قبل أن يتكلم أحد الأطباء ويطلب منه الجلوس والهدوء وربت على يده بابتسامة، وأخبركه أن كل الأطباء المختصين اجتمعوا مع بعضهم لتحليل نتائج فحوصاته الشامل، وتبين أن خللا بسيطا في جسده سبب كل مشاكله، لذا يحتاج إلى «كورس» يشمل مضادا حيويا وعلاجا غذائيا مختصا يعيد عافية جسده وجلسات نفسية لمدة شهر تحت إشرافهم بالمستشفى.

بقى سويعات على موعد طائرته التي ستعود به إلى وطنه هذه المرة بجسم سليم ووجه يعلوه الأمل والراحة بعد نجاح فترة علاجه.

إن جسدنا كيان واحد، يحتاج إلى مسلك شامل للتعامل الكلي معه دون الانحياز والتركيز على جزء معين منه، هذا السبيل الناجح للعلاج هو نفسه ما دعا له الشيخ حسن الصفار بالتعامل مع البلاءات وبالخصوص جائحة كرونا الحالية في محاضرته بعنوان «تفسير الظاهرة ومسلك التعامل».

تكلم الشيخ الصفار عن مرور أشهر على جائحة غيرت حياة الناس وغيرت بعضا من أقدارهم، وسارت بنا لتصيب الناس بالصدمة والذعر وبدأت تنشر الرهبة التي طالت كل فئات المجتمع، فحتى أقوى دول العالم «أمريكا» لم تسلم منه بل تصدرت احصائياتها أعلى عدد من الإصابات.

ثم سلط الشيخ الضوء على منحى الواقع الذي نعيشه، وجعلنا نتأرجح بين تحاليل واستنتاجات الدول والعلماء في سبب ظهور هذا الفايروس المنتشر إن جزءا من قوة طرح الشيخ الصفار لهذا الجانب يعود إلى قوة معارفه المتركزة بالقراءة الدائمة لما يجري بالعالم من أحداث ليواكب الدين بالواقع وهذا السبيل الحقيقي لنهضة الأمم.

لخص الشيخ النظريات المختلفة المفسرة لظهور فايروس كرونا إلى العالم بالتالي:

- نظرية المؤامرة التي اعتبرت الصين منبع الفايروس من خلال تصنيعها إياه في إحدى مختبراتها وكان من مؤيدين هذه النظرية أمريكا التي سمته «فايروس الصين».

- نظرية قامت بتوجيه السبب لجنود الجيش الأمريكي في الصين والذي قام بنشره بشكل واسع ومخيف وكانت إيران والصين من المؤيدين لهذه النظرية.

- نظرية ثالثة بنيت على أساس أن هواتف الجيل الخامس هي التي سببت في اتساع دائرة الانتشار وتقليل مناعة الناس في محاربة المرض، مما جعل الناس تتجه لتخريب أبراج الاتصالات.

- ونظرية تدعي أن ما يحدث هو بداية نهاية العالم فكثير من المهتمين بالبحوث الفلكية كانوا يضعون تواريخ لنهاية العالم بنظرهم وتأتي التواريخ وتمر ولا يصدق تنبؤهم.

- نظرية اعتبرت الجائحة إحدى علامات ظهور الإمام المهدي   هذي المسألة المختصة بعلامات الظهور اختلف فيها الكثير من المشايخ حتى برز العديد من الناس من ادعوا أنهم المهدي المنتظر.

- نظرية أخرى تعتقد أن الوباء عقوبة إلهية وانتقام من الله على العباد؛ بسبب مخالفتهم إلى أمر الخالق وتوجيهاته كما حدث عندما عاقب الله أمما سابقة ذكرت بالقرآن.

وكما تعددت الأسباب تعددت أساليب التعامل معها تماما، إن هذه الامتزاجات الفكرية خلقت مسارات مختلفة بين الناس بحسب ميولهم إلى إحدى هذه النظريات عن سواها.

هناك من تعامل مع الفايروس بمزاجيته غير مصدق للأحداث، مرتاح البال يظن أنه مستبعد من الإصابة به. وهناك من هلع ودخل في خوف شديد خاصة مع كثرة المواد الإعلامية التي تغطي أخبار الجائحة، فسببت في حالات نفسية زادت بها عدد الإصابات كون الفايروس يقتات على الأجساد ضعيفة المناعة.

دعا الشيخ الصفار إلى أننا في أمس الحاجة للبعد عن الجدل القائم على تفسير الظاهرة، وأننا نحتاج إلى توحيد مساراتنا لهدف واحد ينظر به العالم كنظرة الجسد الكامل. لنواجه بقوة وصدق هذا الفايروس

بنظرية واحدة فقط تؤمن أن الفايروس قد يحمل جزءا من العقوبة الربانية وجزءا من النعم وجزءا من حروب الدول ومصالحها.

هذه النظرية يتبعها إتحاد كلي كعلاج فعال بالوعي المجتمعي القائم باتباع الإجراءات الاحترازية بكل الدول وكل القطاعات وكل الفئات العمرية والمهنية دون استثناء متزامنة مع اجتهاد العلماء وتعاونهم لاكتشاف لقاحات ناجحة تنهي بذور هذا الوباء في مجتمعنا.

طالب الشيخ الصفار بنظرة تقدير واحترام إلى القطاع الصحي الذي أبانت الجائحة أهميته والشكر لكل الجهود المبذولة من منتسبيه فهم يعملون ليل نهار دون كلل وملل. نحن حقاً بحاجة لجهود استثمارية بالجانب الطبي تزيد من فرص دراسة طلابنا اختصاصات طبيبة نادرة تخدم الشعوب في هذه البلاءات.

مشاعر فقد الأحبة، الآلم التي يعاني منها المرضى بالجائحة كلها مقدرة.

هكذا قدم الشيخ الصفار مواساته للجميع، داعيا لهم بتذكر رضا الحسين   وهو يشاهد استشهاد أهله واحدا تلو الآخر أمام عينيه في كربلاء ويقول بطمأنينة «هون علي ما نزل بي أنه بعين الله»

ما أعظم هذه القوة التي تجعلنا نتحمل البلاءات لعلمنا أن الله عالم بكل المجريات مطلع على معاناتنا وصبرنا وجروحاتنا. قريباً سنكون بكرسي الطائرة كمحمد نتنقل بين مطارات العالم التي توقفت، نعاود حياتنا السابقة نتيجة اجتماعنا بنظرية متكاملة واحدة وهي أن «بعد العسر يسر دائماً» فبعد جرف الفيضان ينبت الشجر وبعد شدة المطر يظهر قوس قزح.