تصاعد وتيرة الانحراف السّلوكي والأخلاقي في المجتمع

 

﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا[سورة مريم، الآية:59].

تتناقل الأجيال البشرية المعارف والعلوم والعادات والسّلوكيات على نحو متتابع جيلًا بعد جيل. حيث ينشأ كلّ جيل في أحضان الجيل السّابق عليه، وعبر هذه التنشئة تنتقل اللغة والسّمات والسّلوكيات من جيل إلى جيل، فالأبناء الذين يتربون في كنف عوائلهم، وبيئتهم التي تحمل سماتها الخاصة، تنتقل إليهم بطبيعة الحال كلّ تلك السّمات الأسرية والمجتمعية، لذلك نجد أنّ لكلّ مجتمع سماته وطبائعه الخاصة، من ألوان الملبس والمأكل إلى سائر أمور الحياة. هنا يأتي السؤال حول ما إذا كانت القيم والأفكار ـ كما سائر الطبائع ـ تنتقل على ذات المنوال من جيل إلى جيل.

صعوبات توارث القيم الأخلاقية

لا شكّ أنّ التنشئة تساهم على نحو أساس في نقل القيم والأفكار والسّلوكيات من الجيل السّابق إلى اللّاحق. لكن انتقال القيم والأفكار بين الأجيال لا يتسم بالسهولة على غرار انتقال اللغة وأساليب الحياة وعادات المعيشة، حيث يتسم انتقال القيم بصعوبة أكبر. ويتطلب إيلاء الأمر اهتمامًا بالغًا وعناية أكبر، ذلك أنّ الطبيعة البشرية ميّالة نحو الشهوات والأهواء، والاندفاع خلف المصالح، وهذا بدوره يُعَدّ معوقًا من معوقات الالتزام بالقيم والأخلاقيات السّوية. 

من هنا تبدو الحاجة ماسّة لأن يبذل كلّ جيلٍ الاهتمام الكبير لتحقيق انتقال سلس للقيم للجيل الذي يليه. أما إذا غاب الاهتمام والعناية والتركيز فإنّ نتيجة ذلك قد تكون بروز جيل متمرّد على قيم آبائه ومخالفًا لها. ضمن هذا السّياق يمكن النظر إلى الآية الكريمة في سورة مريم التي تناولت سيرة الأنبياء الهداة والصالحين من أتباعهم ثم أعقبت ذلك بسيرة الجيل الذي لحقهم، قال تعالى: ﴿أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَـٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، تشير الآية الكريمة إلى السّمة الإيمانية التي كانت تجلل جيل الأنبياء والقيمية التي كانوا يتصفون بها وأتباعهم، بخلاف الجيل التالي الذين وصفتهم الآية في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، ويتضمن الشطر الأخير من الآية الكريمة إشارة لطيفة بقوله تعالى: ﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ولم يقل إنّهم تركوا الصلاة، أي إنّ أبناء هذا الجيل ربما لم يكونوا يتركون الصلاة بقدر ما كانوا يستخفون بها، كما يقول المفسّرون، على نحو قاد استخفافهم بالصلاة إلى تفريغها من محتواها حتى باتت ممارسة شكلية خالية من أيّ مضمون، والنتيجة الطبيعية لتلك الاستهانة والاستخفاف، الوقوع في الغيّ مقابل الرشد، أي إنّهم انزلقوا نحو شهواتهم، وافتقدوا قيمهم ومبادئهم، وصار مستقبلهم عرضة للشقاء والضلال والفساد.

الانتقال السلس للقيم والأخلاق

من هنا يأتي السؤال عن كيفية تمكن الجيل الملتزم بالقيم أن ينقل هذا الالتزام إلى الجيل الذي يليه. إنّ تحقيق انتقال سلس للقيم والأفكار يحتاج إلى توفر عدة أمور، وأبرزها ثلاثة:

الأمر الأول: أن تتحقق البيئة الصالحة التي ينشأ ضمنها أبناء الجيل الجديد، على نحو تساهم هذه البيئة في زراعة الأخلاق والمبادئ والقيم الصالحة في نفوسهم، وتخلق عندهم الاستعداد والتهيئة للصلاح، وعلى النقيض من ذلك إذا نشأ أبناء الجيل الجديد في بيئة فاسدة، عندها لا ينفع التمنّي وحده ولا الرغبة في صلاح الأبناء في نشأتهم أسوياء صالحين. 

لذلك ينبغي للمهتمين بانتقال القيم الصالحة للأجيال الصاعدة أن يسهموا أولًا في إيجاد البيئة الصالحة التي يعيش ضمنها الأبناء، ليكونوا بذلك أكثر استعدادًا للصلاح. 

الأمر الثاني: أن يجري توفير التربية والتعليم المناسبان، ذلك أنّ التربية والتعليم قد تكون قشرية أو تنتهج أساليب عفا عليها الزمن، كانت صالحة لأجيال عاشت في قرون خلت، وهذه مشكلة الكثير من المناهج الدينية القائمة في بلادنا الإسلامية، حيث لم تنجح بلادنا حتى اليوم في وضع مناهج تربوية تعليمية تستقطب الأجيال الجديدة نحو الأخلاق والقيم الدينية. ولعلّ أحد أبرز المظاهر في هذا الصدد، هو التشبّث في مجال التعليم بمفاهيم قديمة في الفقه والتفسير والعقيدة التي وضعها أناس في عصور ماضية، ربما كانت تناسب تلك العصور، غير أننا نأتي لتعليم أجيال اليوم تلك المفاهيم البعيدة عن واقعهم الراهن. ومن ذلك مثلًا تدريس مفاهيم حول الشرك والبدعة وغيرها، مستوحاة من ممارسات لأناس في عصور أخرى ربما أوهمت بوقوعهم في الشرك، فما الداعي للتركيز على هذا الأمر في عصرنا الراهن وجعلها أصلًا من الأصول، وجزءًا من مناهج التعليم كما لو كانت تلك الممارسات أمورًا معيشةً الآن. 

لقد أثبتت مناهج التعليم الديني المعتمدة منذ عقود عجزها التام عن استقطاب الأجيال الجديدة، وغرسها القيم والمبادئ في نفوسهم. لم يعد الناس جهلاء سذّجًا، لذلك لم يعد مستساغًا اتّهام المسلمين بالشرك والكفر وعبادة القبور. لا لشيءٍ إلّا لأنهم قاموا بممارسات أرادوا بها إظهار حبّهم لرسول الله ولأهل بيته الكرام وصحابته الأخيار. وكيف يُستساغ الاتّهام بالشرك لحجاج أتوا إلى بيت الله الحرام من كلّ فجٍّ عميق يبتغون رضى الله وغفرانه، وهم يلهجون بالشهادتين ليل نهار ويطوفون بالبيت ويصلون إلى الكعبة. 

التعارض بين القيم والمصالح

أما الأمر الثالث: فهو علاج التعارض بين القيم والمصالح. فالأجيال الجديدة لها أهدافها وتطلعاتها الكبيرة على الصعيد الشخصي والعام، وتبعًا لذلك لا بُدّ وأن يكون هناك ملاءمة بين رعاية المصالح والالتزام بالقيم في هذا العصر المتسارع الذي نعيش. 

وحقيقة الأمر، ينبغي أن نعترف بأنّ مجتمعاتنا لم تنجح في الامتحان، بل سجّلت فشلًا ذريعًا في نقل الأخلاق والقيم والمبادئ إلى أجيالنا الجديدة. ولا أدلّ على ذلك من ملاحظة الأجواء العامة التي تكشف بجلاء أنّ الجيل الجديد، ما عاد يحمل قيم آبائه ولا يلتزم بمبادئهم وأخلاقياتهم، ولا أدلّ على هشاشة الحالة القيمية من تفشّي الجريمة والفساد والانحرافات الأخلاقية. 

حيث تشير الإحصاءات الرسمية في هذا الصّدد إلى نتائج مؤلمة، مع أنّها لا تشمل كّل ما يجري وإنّما ما يصل منها للأجهزة الرسمية، فقد أشارت إحصاءات الأمن العام السعودي لعام 2006 بشأن الجرائم في المملكة، إلى أنّ عدد جرائم القتل لهذا العام بلغت 15492 جريمة قتل[1] ، أي بمعدل 43 جريمة قتل في كلّ يوم، فهل من المعقول أن يجري هذا في بلد تحتلّ فيه الدروس الدينية نصف مناهجه التعليمية، بخلاف آلاف المحاضرات وخطب الجمعة وبرامج التلفزيون وجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ناهيك عن انتشار حالات العنف والسّرقات التي تنضح بها الصحف اليومية على مدار العام، فقد أشارت إحصائية الأمن العام إلى أنّ جرائم السّرقة بلغت في العام (2006) 39608 جرائم، أي بمعدل يومي مقداره 110 جرائم سرقة. وعلى صعيد الجرائم الأخلاقية تشير الإحصائية إلى 11680 جريمة[2] . 

والسؤال المطروح هنا، هو عن السبب الرئيس خلف هذا المقدار المتنامي من الجريمة والفساد التي تضرب الجيل الجديد. أليست في ذلك مفارقة عظيمة، ينبغي أن تلفت أنظار الجميع، إلى الفشل الذريع في نقل القيم والمبادئ من الجيل السابق إلى الجيل الحالي. ولعلّ إحدى المعضلات في هذا السبيل، هي مدى التزام الجيل المربي نفسه بهذه القيم نفسها! فهناك آباء هم أنفسهم غير ملتزمين بالحدّ الأدنى من القيم، لكنهم يتمنّون في الوقت ذاته أن يجدوا أبناءهم ملتزمين بها!، وترى الواحد من هؤلاء الآباء مع عدم التزامه بالمبادئ الأخلاقية، يصدم حينما يرى ابنه متورّطًا في مشكلة أخلاقية أو جرائم سرقة أو قتل!، وحريٌّ بأمثال هؤلاء، آباء وعائلات، أن يُسائلوا أنفسهم عن مدى المسؤولية التي يتحملونها في انحدار أبنائهم إلى درك الجريمة، من هنا ينبغي لكلّ من يتمنّى أن لا يقع أبناؤه وأقرباؤه وأعزّاؤه في فخّ الإجرام والانحراف والفساد، أن يُجسِّد هذا التمنّي من خلال الالتزام الشخصي والاهتمام الذاتي بالتوجيه والتربية وتوفير الأجواء الصالحة للناشئة. 

 

* خطبة الجمعة بتاريخ 6 ذو القعدة 1428هـ الموافق 16 نوفمبر 2007م.
[1]  جريدة الشرق الأوسط الصادرة يوم السبـت 14 شـوال 1428 هـ 27 اكتوبر 2007 العدد 10560.
[2]  المصدر نفسه.