الحالة الدينية والنقد البنّاء

 

روي عن أمير المؤمنين أنه قال: «مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الْآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَإِ»[1] .

منح الله الإنسان العقل وزوّده بقدرات هائلة على التفكير للوصول إلى الموقف السليم والرأي الصائب والحكم على الأمور. ولكن نظرًا لما يحيط بالإنسان من ملابسات وظروف مختلفة، فإنّ ذلك ربما حجب عنه إمكانية الوصول إلى الرأي الصائب، أو الأكثر صوابية، ذلك أنه ربما جاء الرأي الصائب في مقابل الرأي الخاطئ تارة، وتارة يأتي في مقابل رأي أكثر صوابية. ومردّ ذلك إلى الظروف والملابسات المتعلقة بصاحب الرأي حيال الموضوع محلّ التفكير، التي ربما جعلت منه غير محيط بمختلف ملابسات المسألة. وغنيّ عن القول إنه إذا ما غابت بعض الملابسات عن الإنسان، فإنّ ذلك سيفضي به إلى التشخيص الخطأ، الأمر الذي سيقود في نهاية المطاف إلى تبنّي آراء وأحكامًا خاطئة حيال المشكلة محلّ النظر. 

وإضافة إلى ما سبق، قد يفتقر الإنسان إلى التوازن في النظر إلى جوانب الموضوع، والحكم على الأشياء، بالنظر إلى التداخل بين عناصر عديدة ضمن مشكلة واحدة، الذي ربما قاد إلى الانجذاب إلى جانب على حساب الجوانب الأخرى، ما يفضي إلى تبنّيه رأيًا غير متوازن. 

هذا بخلاف ما يمكن أن يستولي على الإنسان من أهواء ورغبات وضغوط وغير ذلك، ما يجعل منه غير قادر على التوصل بمفرده إلى الرأي الصائب، أو الأكثر صوابية.

وبالنظر إلى جميع ذلك، جاءت التوجيهات الدينية مشدّدة على أهمية النظر في الآراء الأخرى، وضرورة تمحيصها، وإن لم يرد الشخص الإذعان لها بداية. ذلك أنّ الآخرين ربما كانوا متجاوزين للأهواء والضغوط والانشدادات التي يقع فيها الفرد نفسه، وعندها سيكون اتخاذ القرار الشخصي بعد الاستماع لآراء الآخرين، غيره قبل الاستماع لتلك الآراء. أمّا إذا أعرض الإنسان عن آراء الآخرين، فإنه سيكون عرضة للوقوع في الخطأ على نحو أكبر، وقد ورد عن الإمام عليّ أنه قال: «قَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ»[2] . 

التعامل الإيجابي مع المعارضة والنقد

وإذا كان الأفراد على المستوى الشخصي محتاجين للاطّلاع على آراء الآخرين، فإنّهم أكثر حاجة إلى ذلك إذا كانوا في موقع المسؤولية والإدارة في الشأن العام. سواء كان على مستوى إدارة الأسرة، أم إدارة الشركة، أو رئاسة الجمعية أم غير ذلك. 

ومن المعلوم أنّ الإنسان أكثر حبًّا للاستماع للمديح وأكثر ميلًا إلى الآراء الموافقة لرأيه، فهو غالبًا ما ينتشي عند الإشادة برأيه من طرف الآخرين، وعلى النقيض من ذلك قد يضيق ذرعًا بالاعتراض والانتقادات الموجهة إليه، فهو لا يريد أن يكون عرضة للتخطئة والانتقاد. 

والناس متفاوتون في ردّات فعلهم على حالة الانتقاد، فمنهم من يتأثر قليلًا ومنهم من يستولي عليه الغضب والانزعاج الكبيران، ومنهم من يهاجم المنتقدين لرأيه يقلّل من شأنهم، عادًّا نفسه ـ ضمنًا ـ أبعد ما يكون عن الوقوع في الخطأ. وهذا بحدّ ذاته خطأ فادح يقع فيه الأفراد عمومًا، أما إذا صدر عمّن هو متصدٍّ للشأن العام فذلك أدهى وأمرّ، حيث ستقود مواقفه تلك إلى الخسارة على نطاق مجتمعي أوسع، ربما طال الأمة والدين، لا لشيءٍ إلّا لأنفته عن الاستماع للانتقادات والآراء المغايرة. 

إنّ هناك دورًا إيجابيًّا تلعبه عملية النقد والمعارضة في الرأي. وحقيقة الأمر أنّ الرأي الناقد ربما عُدّ أكثر فائدة من الرأي المؤيد، ذلك أنّ الرأي المؤيد ربما بثّ شيئًا من التشجيع المؤقت في النفس، بخلاف الرأي الناقد الذي يقرع جرس الإنذار، ويلفت النظر إلى نقاط الضعف، وبذلك يصقل الرأي ويجعله أكثر رصانة. وهنا يمكن تشبيه الآراء الناقدة بالمرآة التي تمكن الإنسان، حين النظر لها، من الكشف عن أيّ شائبة في الوجه، والتي بدونها قد لا يتسنّى له ذلك. من هنا أن لا ينزعج الإنسان من النقد ولا يرفض المعارضة، سيما إذا كان في موقع التصدي للشأن العام، على المستوى الديني أو الاجتماعي أو السياسي. 

مع التجربة النبوية

وعلى المتصدّين للشأن العام أن يستثيروا عقول الناس، تمامًا كما كان يفعل رسول الله حين يخاطب المسلمين بقوله: «أشيروا عليّ»، مع ما لديه من مقام رفيع وعقل كامل واتصال مباشر بالسماء من خلال الوحي، ولم يكن ذلك إلّا لتشجيعهم على الكلام وإبداء ما عندهم من ملاحظات في هذا الشأن أو ذاك، وقد سبق ذلك الأمر الإلهي للنبي في قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، بالرغم من عدم حاجته لذلك، لولا أنّها المنهجية التي يريد الله ورسوله سنّها في الأمة إلى يوم الدين. 

وقد حصل أن اعترض على النبي بعض المعترضين من الأعراب بأسلوب فظٍّ خشن، وبالرغم من عدم صحة اعتراض هؤلاء فضلًا عن سوء أدبهم معه، لكنه بعظيم خلقه وسعة صدره لم يكن يقابلهم بخشونة، ولعلّ مغزى التصرف النبوي الحكيم هو أنّ المواجهة الخشنة مع صاحب الاعتراض الخاطئ ربما جعلت صاحب النقد الصحيح يحجم عن طرح رأيه. ومما ورد في السيرة النبوية على هذا الصّعيد أنّ رجلًا أتى رسول الله يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول الله: «دعوه فإنّ لصاحب الحقّ مقالًا»[3] ، ومضمون قوله أنّ الأعرابي كان رجلًا محتاجًا وقد دفعه ذلك لفعل ما فعل، وهذا من عظيم خلقه وحسن منهجيته في تقبل الاعتراض والنقد ولو شاب ذلك النقد الخشونة والانفعال. كما ورد في السيرة أنه كان بخلاف القادة الذين ينتشون حين يرون الآخرين يخشون جبروتهم ويهابونهم ويرتعدون عند الوقوف بين يديهم، فإنه حين لاحظ تلك الحالة على بعض من ورد عليه خاطبه بالقول: «هوّن عليك، فإنّما أنا بن امرأة من قريش كانت تأكل القديد»[4] ، وفي ذلك تواضع منه حتى يزيل الرهبة من قلوب الآخرين في تعاملهم معه.

علي وترحيبه بالنقد والاعتراض

وقد ضرب الإمام علي بعد النبي أروع الأمثلة في هذا الشأن، حتى وصفه ضرار بالقول: «كان فينا كأحدنا»، هذا مع كونه حينها إمامًا وخليفة وقائدًا للأمة، إلّا أنه كان يستثير عقول أتباعه ويتيح لهم فرص المساءلة والنقد وإبداء الاعتراض عليه، وقد ورد في إحدى خطبه أنه قال: «لَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي»[5] . 

إنه يرفض رفضًا قاطعًا مخاطبته بلغة التعظيم والتملق على غرار ما تُكلّم به الحكام الجبابرة، كما يرفض تحفظ أصحابه من إبداء اعتراضاتهم عليه خشية من إغضابه، أو ظنًّا منهم بأنه يستثقل نطقهم بالحقّ في حضرته، ناهيك عن نأيه التام عن استدرار إعظام الآخرين له، وهذه الأخيرة خصوصًا لا تصدر إلّا عن حقراء النفوس الذين تنعدم فيهم الثقة بأنفسهم، ويرجع ضرورة الاستماع إلى قول الحقّ وعرض العدل عليه، إلى أنّ ذلك سيكون توطئة للعمل بهما، على النقيض ممن يضيق ذرعًا بذلك فهو أكثر بعدًا من العمل بهما. 

ويمضي في تحريض أصحابه على محضه النصيحة ومصارحته بالحقيقة بقوله: «فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ»، ويذهب بعيدًا في مصارحة القوم بقوله: «لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ»، وهذا ما يظهر عظيم تواضعه أمام قومه، ويمضي في قوله إن جميع ما عنده من ملكات وعصمة نفسية هي من عند الله تعالى بقوله: «إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ»، وإلّا فإنّ صدور الخطأ في القول والفعل أمر وارد تبعًا للطبيعة البشرية.

الشأن العام يهم الجميع

وعلى هذا النحو ينبغي أن يكون القادة الحقيقيون في استماعهم للنقد وتقبّلهم للاعتراض. حيث يعتبرون إبداء النقد والاعتراض حقٌّ أصيل من حقوق الناس عليهم، وهذا ما ينبغي أن يشمل الحالة الدينية، هذه الحالة المتمثلة في ثلاثة عناصر؛ وهي الأفكار والآراء، والنظم والمؤسسات، والرموز والأشخاص. إنّ الحالة الدينية في أبعادها الثلاثة ينبغي أن يكون المجال عندها مفتوحًا على مصراعيه للاستماع للنقد وتلقّي الاعتراضات وتقبّل النصح، تأسّيًا بالسيرة النبوية والعلوية وسير أئمة أهل البيت التي درجت على تقبل الرأي الآخر دون أدنى غضاضة، سيّما وأنّ أحدًا أو مؤسسة دينية لم تدّعي العصمة لنفسها من الخطأ، ولم يزعم فقيه أو مرجع ديني ذلك قطّ، ومعنى ذلك أنّ الخطأ وارد عليهم، لذلك ينبغي أن يكون صدرهم رحبًا حيال الاستماع إلى النقد الموضوعي والاعتراضات البنّاءة. 

إنّ من الخطأ الفادح التعامل مع جميع الانتقادات الموجهة للحالة الدينية بوصفها استهدافًا لرجال الدين وإضعافًا للمؤسسات الدينية، بل على النقيض من ذلك، يساهم النقد البناء في تقوية الحالة الدينية وشدّ عودها، متى ما تعاملت معه على نحو واقعي عقلاني، فالدين عميق قوي ولا خوف عليه. 

بين النقد والتجريح

هنا ينبغي الإشارة إلى ضرورة التفريق بين النقد البناء وممارسة التجريح التي لا تمتّ للنقد بصلة. فالتجريح حالة مرفوضة جملة وتفصيلًا، سواء جاءت ضدّ الأفراد العاديين أم غيرهم من أصحاب القامات والمتصدّين للشأن العام. وبخلاف ذلك ينبغي أن تكون الصدور رحبة لتلقي الاعتراضات وتقبّل المشاريع والاقتراحات والتفاعل مع وجهات النظر المختلفة. وللإشارة إلى المدى الواسع المتاح لطرح الاجتهادات والآراء والأفكار المختلفة، يقول الفقهاء إن ّهناك ما لا يزيد عن خمسة بالمئة فقط من الأحكام الفقهية التي تعدّ أحكامًا قطعية وتعتبر من الضروريات المجمع عليها من الفقهاء، وما عدا ذلك يعتبر الفقهاء أنّ 95 بالمئة من الأحكام الفقهية خاضعة للاجتهاد وهي قابلة للأخذ والردّ. 

وجدير بالذكر هنا أنّ نقاش أيّ مسألة ضمن الحالة الدينية ربما جاء على مستويين، أحدهما أن يبدي أحدهم وجهة نظر عابرة في الموضوع، أو يلفت النظر إلى ثغرة معينة ينبغي أن تسدّ أو نقطة ضعف يلزم أن تعالج، وهذا لا تثريب عليه من حيث الأصل، سواء كان على مستوى الأفكار الدينية أم الأعراف والنظم المؤسسية، سيّما وأنّ كثيرًا من هذه النظم هي مستحدثة ولم يكن لها وجود في السابق، والحال نفسه تجاه النقد الموجه للأشخاص في الحالة الدينية، والذي ينبغي ألّا يحجر عليه، فرجال الدين ليسوا معصومين. أما المستوى الثاني فهو ما يأتي ضمن تقرير الرأي العلمي للمسائل الدينية الذي يتحتم معه السير وفقًا للضوابط العلمية المتعارف عليها ضمن أهل الاختصاص. وهنا يمكن تشبيه هذين المستويين بالشخص العادي الذي له أن ينتقد مستوى العناية في المستشفى أو يرفض إهمال الطاقم الطبي أو ينتقد سوء الخدمات، فهذا أمر متاح للجميع، بخلاف ما إذا وصل الأمر إلى الشأن الطبي التخصصي الذي لا يتسنّى لكلّ أحدٍ بطبيعة الحال الإدلاء بدلوه فيه، وإنما هو مقتصر على أهل الاختصاص.  

وصفوة القول، يشجع الدين الإسلامي أتباعه على استثارة عقولهم وطرح آرائهم انخراطًا منهم في الشأن العام. الديني والاجتماعي والسياسي، فهذه المجالات ليست حكرًا على فئة دون أخرى، ومن واجب الجميع أن يفكروا ويناقشوا ويعتصروا أذهانهم من أجل الوصول إلى الأفضل. ولذلك ينبغي أن ترحب الحالة الدينية بالنقد وتتقبل الملاحظات وتتفاعل مع الاعتراضات الموجهة لها، سواء جاءت على هيئة مقترحات أم مشاريع أم تبيان ثغرات، أو الكشف عن نقاط ضعف، والمطلوب أن تستجيب للملاحظات الجوهرية وأن تأخذها بعين الاعتبار وتستفيد منها على كلّ المستويات؛ لأنّ ذلك هو ما يوصل إلى الصواب، كما قال أمير المؤمنين: «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ».

 

* خطبة الجمعة بتاريخ 11 شعبان 1428هـ الموافق 25 أغسطس 2007م.
[1]  نهج البلاغة، حكمة 173.
[2]  نهج البلاغة، حكمة 211.
[3]  سبل الهدى والرشاد، ج7، ص20.
[4]  المستدرك على الصحيحين، ج3، ص 50، حديث4366.
[5]  نهج البلاغة، خطبة 216.