قدسية الحياة وثقافة الموت

مكتب الشيخ حسن الصفار
قدسية الحياة وثقافة الموت، عنوان الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ حسن الصفار يوم الجمعة الموافق 3 ربيع الأول 1425هـ (23 إبريل 2004م).

وفيما يلي نص الكلمة:

الحياة هبةٌ وقرارٌ إلهي لكل موجودٍ في هذه الدنيا، ولا يحق لأحد أن يقف أمام هذا القرار الإلهي أو يلغي هذه المنحة، حتى الإنسان نفسه ليس مخيراً في أن يقبل الحياة أو يرفضها، وإنما يجب عليه أن يقبل هذه المنحة الإلهية وأن يحافظ عليها، ومن هنا أصبح الانتحار حراماً في الإسلام، ولا يزال الانتحار محظوراً دولياً، وإن كان هناك بعض التصرفات السلبية من بعض الأطباء في الغرب تحت عنوان الرحمة بالمريض، ورغم الآلام التي قد يتحملها المريض إلا أن الشارع المقدّس لا يُجيز له أن يلجأ للانتحار، بل حتى التقصير في طلب العلاج، فلو قصر في العلاج متعمداً حتى مات فيكون شبيهاً بمن ينتحر ويحاسبه الله تعالى على ذلك، ولذلك اعتبر العلماء أن الانتحار مظهرٌ من مظاهر القتل العمد، وينطبق عليه قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (النساء، 93).

ومن ناحية ثانية لا يحق لأحدٍ أن يعتدي على حياة غيره ولو كانت في اللحظات الأولى من بدئها أو كانت في طريقها إلى الحياة. ولذلك يحرم فقهاء الإسلام الإجهاض في أي مرحلة من مراحل الجنين، فبمجرد أن تنعقد النطفة أصبح وجوداً له حق الحياة ولا يجوز التعدي على هذا الوجود.

فالحياة أقدس شيءٍ في الإسلام، ولذلك شدد الإسلام على مسألة النيل من حياة أي أحد من الناس كبيراً أو صغيراً. وإذا تأمل الإنسان الآية الكريمة التي يقول فيها تعالى: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً (المائدة، 32)، يجدها فريدة من نوعها في تاريخ الفكر الذي عرفه الإنسان، فلا يوجد فكرٌ أو رأي أو تشريعٌ يقدس الحياة كما تقدسها هذه الآية الكريمة. وقد يستحق الإنسان القتل، ولكن يجب أن يكون ذلك ضمن ضوابط شرعية مشددة، ومن دون أي تسيب أو تساهل في تطبيق هذه الضوابط. وتقرر الآية الكريمة أن البشرية حقيقة واحدة والاعتداء على أي فرد من أفرادها اعتداء على الحقيقة كلها. وهناك رأيٌ آخر للمفسرين يقول: إن في الآية إشارة إلى أن من يتجرأ على قتل شخصٍ يتجرأ على قتل أشخاص، ولو استطاع على البشرية كلها لفعل. وهناك التفاتةٌ مهمة لأحد المفسرين وهو المفسر التونسي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره: التحرير والتنوير، وهو من التفاسير الجيدة، يقول: ((ومعنى التشبيه في قوله تعالى: ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً حثّ جميع الأمة على تعقّب قاتل النفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائه أو الستر عليه، كلٌّ مخاطبٌ على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض، من ولاة الأمور إلى عامة الناس. فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنه قد قتل الناس جميعاً)). وبناءً على ذلك يجب أن تتعبأ الأفكار والمشاعر ضد أي حادث قتل، ولو كان المستهدف شخصاً بعيداً. إذ يجب أن يشعر كل أحدٍ أن الاعتداء وقع عليه.

هذه هي الثقافة التي يريد الإسلام إعطاءها للمسلمين حتى تكون للحياة قيمتها وقدسيتها، والأحاديث الواردة عن رسول الله وعن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) تؤكد على هذا المعنى. فعن رسول الله أنه قال:« أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء». وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر أنه قال: «ما من نفس تُقتل برّةً كانت أو فاجرة إلا وتأتي يوم القيامة متعلقة بقاتلها». وفي رواية أخرى أن المسلمين وجدوا إنساناً مقتولاً في عهد رسول الله في قبيلة جهينة ولا يُعلم مَن قتله، فغضب رسول الله لهذا الحدث، وأمر باجتماع المسلمين في المسجد، وخطب فيهم قائلاً: «أيها الناس أيقتل إنسان ولا يعلم قاتله، والله لو أن أهل السماوات والأرض اشتركوا في دم مسلم واحد بريء أو رضوا به لكان حقاً على الله أن يكبهم كلهم على مناخرهم في نار جهنم». وورد في الحديث أن رسول الله بعد أن انتهى من أعمال منى وقف في الناس خطيباً وقال: «أيها الناس أي يومٍ أعظم حرمةً؟ قال المسلمون: هذا اليوم. قال: فأي شهر أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الشهر. قال: فأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». هكذا يهتم الإسلام بنشر ثقافة احترام أرواح الآخرين.

وعملاً في سيرة رسول الله وفي حياة أئمة المسلمين كان هناك حذرٌ وتحفظٌ كبيرٌ من إراقة أي دم. ويتحدث المؤرخون عن حروب رسول الله التي بلغت حوالي (83) غزوة وسرية، وفي قبال هذا العدد فإن عدد القتلى لا تتجاوز (1400) شخص من الكفار والمسلمين واليهود، وهذا أعلى رقم تذكره الإحصائيات التاريخية؛ ولم يُقتل من المسلمين سوى (150) فقط، لماذا؟ لأن رسول الله وشريعة الإسلام كانت حريصة على الإقلال من القتل إلى أكبر حد ممكن، وخير شاهدٍ على ذلك ما قام به رسول الله في يوم فتح مكة، حيث قال للمشركين: ما تروني فاعلٌ بكم؟ قالوا: أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريم. فقال : ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).

وهكذا كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي كان يلتمس الأعذار ويتوقف عند أقل شبهة للحفاظ على حياة الآخرين.

ونحن نرى كيف تحترم الدول المتقدمة حق الحياة بالنسبة لشعوبها، بغض النظر عما تفعله بالشعوب الأخرى، فأمريكا مثلاً تُقيم الدنيا ولا تقعدها حينما يصاب مواطن أمريكي، وكذلك الحال بالنسبة للصهاينة اليهود، وهذا ما جعل شعوب العالم تحترمهم بسبب احترامهم لأنفسهم. وبعد أن تمت صفقة تبادل الأسرى التي أنجزها حزب الله في لبنان مع إسرائيل، قال أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الذي ألقاه في تلك المناسبة: نحن أعداءٌ لإسرائيل وفي حرب معها، ونعلم جرائمهم، ولكن يجب أن نقر ونعترف بنقطة إيجابية عندهم أن القوم يحترمون أبناءهم، وإسرائيل مستعدةٌ أن تدخل في مفاوضات لعدة سنوات وتوسط كل الدول من أجل إطلاق أسير واحد من أبنائها، بل من أجل إطلاق شلو واحد من أشلاء مقتول من جماعتهم.

هكذا يحترم أؤلئك حق الحياة لشعوبهم، ولكن مع الأسف، المجتمعات الإسلامية التي يُفترض أن تكون سبّاقة إلى ذلك، نجد أن هذه المجتمعات قد ابتليت بثقافة الاستهتار، ولم تعد للحياة قيمة. والإحصائيات الرسمية دليلٌ واضحٌ على ذلك. ومن مظاهر الاستهتار بالحياة عند المجتمعات الإسلامية الأسلوب الذي يُمارسه الناس في قيادتهم لسياراتهم حيث نلاحظ استهتارهم بالحياة وعدم احترامهم لها، مع القدسية التي جعلها الإسلام لها، فتجد عدم احترام إشارات المرور، والانشغال بالهواتف النقالة، وعدم الالتزام بحزام الأمان، مع أن هذه الأنظمة ما وُجدت إلا لسلامة السائق ومن معه، ولكن الخلل في الثقافة والوعي عند هؤلاء بحيث لا يلتزمون بأنظمة المرور إلا بعد أن تُصدر بحقهم غرامة مالية، أو أن يحصل (لا قدّر الله) حادث لا يُفيد بعده الندم.

وتقول إحصائية عام 1424هـ إن عدد الحوادث المرورية في المملكة (300000) ثلاثمائة ألف حادث، مات بسببها (4000) أربعة آلاف شخص، وعدد الجرحى (30000) ثلاثون ألف جريح، وبعضهم حصلت له إعاقات دائمة.

العمليات العنفية الإرهابية


تكرر في الآونة الأخير حدوث بعض العمليات العنفية والإرهابية في بلاد المسلمين وباسم الإسلام، متجاوزةً الضوابط الشرعية التي لا تُجيز استهداف الأبرياء والمدنيين، فهذا رسول الله حينما يبعث بسرية يوصي أصحابه بأن لا يقتلوا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا طفلاً.

ومن هذه الحوادث الانفجار الذي حصل في الرياض يوم الأربعاء / الثاني من ربيع الأول الذي استهدف مبنىً حكومياً يضم الإدارة العامة للمرور وقوات الطوارئ الخاصة وإدارة الأدلة الجنائية، وفي اليوم نفسه حصل حادثٌ شبيه به في البصرة استهدف مراكز للشرطة العراقية. وقبل ذلك ما حصل في المغرب وأندنوسيا والجزائر وغيرها من البلاد الإسلامية.

بأي منطقٍ يقوم هؤلاء الإرهابيون بهذه العمليات التي لا مبرر لها شرعاً أو عقلاً؟ وإذا كان المبرر هو اعتراضهم على الوضع السياسي في البلاد الإسلامية فإن الحل لا يكون باستهداف الأبرياء.

ولكن مع الأسف أصبحت هذه العمليات سمةٌ من سمات المجتمع الإسلامي، وأصبح الاحتمال الأول وراء أي عملية تفجير في العالم أن هم الإسلاميون.

ومن المخجل جداً ما حصل في أسبانيا، حيث التفجير الذي وقع في قطار في مدريد، إذ أعلنت الحكومة الفرنسية أن هذا الحادث ليس له علاقة بالإسلاميين، ولكن هذه الجهات المتطرفة تُصدر بياناً تتبنى فيه العملية. وبذلك شوهوا سمعة الإسلام إلى أبعد مستوى ممكن.

وبهذه الحوادث المؤلمة يعيش الناس حالةً من الرعب والخوف، وقد تحدث البعض ممن يعيش في الرياض أن حياتهم اليومية قد تغيرت لأنهم لا يعلمون ما سيحدث جراء هذا الأسلوب من الأعمال.

ويزداد عمق المشكلة أن الذي يقوم بهذه الأعمال لا يعلم النتيجة الحتمية لما سيقوم به، وما مقدار الضحايا والخسائر التي سيُسببها عمله العنفي. نعم، عندما يكون هناك عدو محتل وهناك مقاومة تواجه هذا العدو فالأمر مختلف، ولكن ما يعمله هؤلاء بعيدٌ كل البعد عن هذا الاحتمال.

ومن ناحية أخرى فإن هذه الأعمال لن تُحقق مصالح سياسية لأصحابها، إذ أنه ليس هناك شاهدٌ أو نموذجٌ واحدٌ يدل على أن هذه المنهجية أوصلت إلى نجاح. وأول بلد حصلت فيه مثل هذه الأعمال العنفية مصر سنة 1974م بدأت بعض الجماعات بمثل هذه الأعمال ولكنهم ما استطاعوا أن يُحققوا نجاحاً في هذا الجانب.

إذن هذا الأسلوب ليس أسلوباً ناجحاً، ولا يوصل إلى نتيجة إيجابية، وفوق ذلك فإن الشرع لا يرضى به. وهنا يمثل أمامنا الرأي والموقف الحكيم عند الإمام الخميني (رحمة الله عليه) أيام الثورة في إيران، حيث حاولت بعض الجماعات أن تطرح مسألة الكفاح المسلح مثل منظمة مجاهدي خلق والتي عُرفت فيما بعد بمنافقي خلق، وفدائيي الشعب، وغيرها، ولكن الإمام كان مصراً أن لا يكون هناك إراقة للدماء، ولم يقبل بأي عمل من أعمال العنف. إلى أن تغير الحكم في إيران وأصبح الحاكم شاهبور بختيار وأمر الجيش أن يجوب الشوارع، وأمر بإطلاق النار، وحتى في هذا الموقف لم يسمح الإمام الخميني بالرد بالمثل، وإنما أمر الشعب أن ينثروا الورود والأزهار عليهم، إلى أن انتصرت الثورة الإسلامية في إيران دون إراقةٍ للدماء.

بينما نجد في مجتمعاتٍ أخرى التي سلكت طريق الأعمال العنفية غير الشرعية كالمذابح التي حصلت في الجزائر، كيف وصل بهم الحال.

وقد يستأنس البعض بمثل هذه الأعمال، ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن خطر هذه الأعمال لا يقف عند حدٍ معين، ولا جهةٍ معينة، إذ أن هذه الأعمال إذا أصبحت هي المنهجية السائدة ستُعطي مجالاً لأعمالٍ إرهابية تحصل في المستقبل بأي مبرر ومسوّغ، وهذا خطرٌ يُهدد الأمة كلّها.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.


وبإمكانك الاستماع إليها عبر الوصلة التالية

media/ent_friday/1425/14250304.asf