عاشوراء من أيام الله

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[1] .

تتحدث هذه الآية عن مصطلح (أيَّام الله)، ولربما لا يكون هذا المصطلح متداولًا بشكل واسع في الثقافة والخطاب الإسلامي المعاصر، ولذا سنحاول أن نغطي جانبًا من البحث حول الحديث عنه، لنركّزه تاليًا عن خصوص يوم عاشوراء، كيومٍ من أيام الله، لذا سيكون حديثنا في هذه الآية منطلقًا من المحورين التاليين:

المحور الأول: أهمية التذكير بأيّام الله

لفهم المقصود بِـ «أيام الله» الوارد في الآية الكريمة، لا بدَّ من التمهيد لذلك ببحث لفظة «اليوم» علميًّا وعرفيًّا.

معنى اليوم

اليوم ـ علميًّا ـ: يعرّف بأنه المدّة الزمنيّة التي تستغرقها الأرض للدوران حول نفسها، والتي تمتدّ لأربعٍ وعشرين ساعة.

بينما اليوم ـ عرفًا ـ: ما يقابل الليل، حيث يبدأ اليوم من شروق الشمس وينتهي بغروبها. فيقال في كثير من أدبيات العرب: اليوم والليلة، و«مسير يومٍ وليلة». وقد وردت بعض الأحاديث الشريفة تستعمل اليوم في هذا المعنى. وقد صنّفت بعض كتب الأدعية فيما يسمّى بِـ «أدعية اليوم والليلة»، بينما الليل يقابله ـ علميًّا ـ النهار، ومن الليل والنهار يتكون اليوم الواحد.

بداية اليوم

اختلفت الشعوب والمجتمعات في تحديد بداية اليوم:

- فالعرب ـ وبالتالي عند المسلمين ـ واليهود يَعُدُّون بداية اليوم من غروب الشمس، فتكون بداية الليل هي البداية الفعلية لأي يوم، ليكون غروب شمس ذلك اليوم هو آخر أوقاته، والساعة ما قبل الغروب هي آخر ساعات ذلك اليوم.

- بينما ما عليه الرومان والأوروبيون الآن أن بداية اليوم تكون من منتصف الليل، أي انتهاء الساعة الثانية عشرة بالتوقيت الزوالي.

نسبة الأيام إلى الله تعالى

في الآية الكريمة توجيه إلهي للنبي موسى أن يذكّر قومه بِـ «أيام الله»، فما المقصود بهذه الأيام؟

الأيام من ناحية زمنية كلها أيام الله، فهو سبحانه خالق الزمان والمكان، وخالق كل ما يحيط بنا في هذا الكون الفسيح.

ولكنّ نسبة أمرٍ مّا إلى الله تعالى يدلّ على تشريفه وتعظيمه، وذلك كنسبة بعض الأمكنة لله، كالمسجد الذي يطلق عليه أنه بيت من «بيوت الله». وكذلك شهر رمضان الذي يطلق عليه أنه «شهر الله».

وقد اختلف المفسّرون في المقصود بِـ «أيام الله» الواردة في الآية الكريمة على ثلاثة أقوال:

(1) فقال بعضهم أن «أيام الله» هي تلك الأزمنة والأيام التي انتصر الله تعالى فيها لأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، وذلك لما تحقق فيها من عزّة لدين الله ونصر لأوليائه ولقيم الحق. وعلى هذا يكون معنى الآية: ذكرهم بأيام انتصارات الأنبياء والمؤمنين على أولئك الطغاة المعاندين.

قال ابن عاشور: أيام الله أيام ظهور بطشه وغلبه من عصوا أمره، وتأييده المؤمنين على عدوهم، فان ذلك كله مظهر من مظاهر عزة الله تعالى. وشاع إطلاق اسم اليوم مضافاً إلى اسم شخص أو قبيلة على يوم انتصر فيه مسمى المضاف إليه على عدوه، يقال: أيام تميم، أي أيام انتصارهم، فأيام الله أيام ظهور قدرته وإهلاكه الكافرين به، ونصره أولياءه والمطيعين له[2] .

(2) بينما يرى بعض المفسرين أن المقصود بِـ «أيام الله» تلك الأيام التي حلّت فيها نقمة الله وغضبه على الكافرين الظالمين الذين كانوا يصرّون على معاندة ومناوأة أنبياء الله وعباده الصالحين، وذلك لما في هذه الأيام من ظهور لمقدرة الله وبطشه ونكاله بهؤلاء الظالمين المعتدين في الأرض.

(3) ورأى بعض المفسرين أن المعنى أشمل من هذين الموردين، فكل يوم حصل فيه حدث مصيري في تاريخ البشرية أو تاريخ مجتمع من المجتمعات، فإن ذلك اليوم يُعدُّ من أيام الله، لما في هذه المناسبات والأيام من عِبَر ودروس ومواعظ يتعلّم منها الإنسان، وتتعظ منها الشعوب والمجتمعات، روي عن النبي أنه قال: أيام الله نعمائه وبلاؤه[3] .

وعلى هذا الرأي يكون معنى الآية الكريمة أن الله تعالى يوجّه نبيّه موسى ويأمره بأن يذكّر قومه بهذه الأحداث والمواقف التي حصلت فيها تطوّرات مهمّة وتحوّلات مصيرية في تاريخهم، كانتصارهم على الطاغية فرعون حينما أهلكه الله تعالى مع جنوده.

وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: «كان رسول الله يخطبنا فيذكّرنا بأيام الله»[4] .

وهذا يدلّ دلالة واضحة على أن هذا التعليم الربّاني ممتدّ مع بقية النبوّات، ليكون سِمَة بارزة في حياة المجتمعات المتديّنة، يتذكّر أفرادها ومجموعاتها تلك الأيام التي يجد فيها الإنسان ما يتّعظ به ويفيده في حياته العملية.

قال الفخر الرازي: إنه يعبر بالأيام عن الوقائع العظيمة التي وقعت فيها، يقال: فلان عالم بأيام العرب. ويريد وقائعها[5] .

قال سيد قطب: وكل الأيام أيام الله، ولكن المقصود هنا أن يذكرهم بالأيام التي يبدو فيها للبشر أو لجماعة منهم أمر بارز أو خارق بالنعمة أو بالنقمة[6] .

وقال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي:

أيام الله هي جميع الأيام العظيمة في تاريخ الإنسانية، فكل يوم سطعت فيه الأوامر الإلهية وجعلت بقية الأمور تابعة لها، هي من أيام الله ، وكل يوم يفتح فيه فصل جديد من حياة الناس فيه درس للعبر، أو ظهور نبي فيه، أو سقوط جبار وفرعون أو كل طاغ، ومحوه من الوجود، وكل يوم يعمل فيه بالحق والعدالة وتنهى حالة الظلم والجور هو من أيام الله[7] .

إقامة الذكرى عرف اجتماعي

وقد أصبح متداولًا ومعروفًا اليوم في المجتمعات البشرية أنها تهتمّ بأيام ذات أحداث مصيرية وتاريخية مهمّة.

فأغلب الدول تحتفي بيوم استقلالها وتحرّرها من نير الاحتلال الأجنبي، وأصبح هذا الأمر تقليدًا دوليًّا، لا تكاد ترى دولة في العالم لا تحتفل بيوم استقلالها، وتجعله يومًا وطنيًا ويومَ عطلة. كما أن لكل دولة أو أمّة من الأمم أيامًا تحتفي بها رسميًّا وشعبيًّا. فالفرنسيون ـ مثلًا ـ يحتفلون بيوم سقوط الباستيل، ذلك السجن الذي كان رمزًا للظلم والطغيان.

وقد تعارفت بعض المجتمعات البشرية على تخصيص بعض الأيام لتكريس وتأكيد بعض القيم والاهتمامات الجيّدة، وذلك مثل يوم «عيد الأم». الذي هو عرف وتقليد قديم عند المجتمعات الأوروبية من القرن السابع عشر الميلادي، كيوم يتذكّر فيه الناس فضل الأم وتضحياتها ويجدّدون عهد التقدير والاحترام للأم، لما تتحمّله من عناء وبما تفيضه على الأبناء من محبّة وعطف في الحمل والرضاع والتربية.

أهمية التذكير بأيام الله

وللتذكير بالأيام المفصلية في حياة كل أمّة أهمية عظيمة تنطبع على واقع الأمة ومستقبلها، وذلك:

(1) من أجل أن ترتبط المجتمعات البشرية بتاريخها، وتستفيد من التجارب والدروس والعبر التي حصلت في تلك الوقائع والأحداث السابقة، وإلاّ لو لم يكن هذا التركيز لكانت معرفة تلك الوقائع خاصّة بأولئك المعنيين بأمور التاريخ والأبحاث التاريخية فقط. لذلك فإن إعلانها والتذكير بها وطرحها بشِكْل عام يلفت أنظار الجميع، وبالتالي يستفيد الجميع من عبرها وتجاربها، كما أن ذلك يساعد على حفظ الهوية الثقافية والوطنية لكل مجتمع.

(2) ومن ناحية ثانية تكون إقامة ذكرى هذه الأحداث تخليدًا لمن قام بتحقيقها، فالبطولات التي تأسست عليها حضارات الأمم والشعوب يقف وراءها أبطال، تكون هذه الاحتفالات تخليدًا لذكراهم، وتلمُّسًا لمواقع البطولة والتميّز لدى هؤلاء الأفراد أو هذه المجموعات.

برامج التذكير بأيام الله بين المنع والقبول

في الآية القرآنية الكريمة يأمر الله تعالى نبيّه موسى بتذكير قومه بأيام الله، فالقرآن هنا لم يضع كيفية معيّنة بها يتحقّق هذا التذكير، ولكنّ ما عليه كثير من الأمم والشعوب أن يتم ذلك عادةً من خلال الاحتفال الشعبي وما يصاحب ذلك من إدخالٍ لبعض التقاليد والأعراف في إحياء هذه المناسبات التي ـ غالبًا ـ ما تقام سنويًّا.

والاحتفاء بالمناسبات الدينية أو الاجتماعية بهذه الطريقة قد تحفَّظت عليها بعض المدارس الإسلامية، وهي المدرسة السلفية، فهم يرون أن الاحتفال بشِكْل منتظم ومبرمج بأي مناسبة ـ تاريخية أو اجتماعية أو دينية ـ غير مشروع وبدعةً في الدين.

ولذلك كان هناك ممانعة في الاحتفال باليوم الوطني في المملكة داخل البلاد ضمن مظاهر رسمية، فقد كان ذلك ممكنًا في سفارات المملكة في الخارج، ولكن لم يكن ممكنًا في داخل البلاد بسبب التحفّظ الديني الذي كان يبديه علماء هذه المدرسة.

فحينما أصبح هناك ضرورةَ أن يعيش الناس في هذا البلد الانتماء إلى وطنهم وأن يشعروا بقيمة هذا الكيان وحبّه وأن تكون هناك هويّة مشتركة يجتمع فيها المواطنون ويلتقون فيها عاطفيًّا ما عادت تظهر تلك المعارضة التي كانت في الماضي، ويبدو أن الظروف السياسية والمستجدات في المملكة قد قلصت من هذه التحفظات، أو دفعت الدولة لتجاوزها فتقرر أن يكون اليوم الوطني عطلة رسمية، وأن تقام مختلف البرامج للاحتفاء به.

وهذا الرأي (التحفّظ في إقامة الاحتفالات الدينية أو التاريخية) يبقى رأي مدرسة معينة، والغالبية الساحقة من المسلمين وفقهائهم لا يرون هذا الرأي، ونجد ذلك واضحًا في إقامة ذكرى المولد النبوي الشريف الذي تحتفل به معظم البلاد الإسلامية، وتعدُّه عطلة رسمية، ومناسبةً مهمّة، يجدّدون فيه الولاء لرسول الله ، ويتحدّثون عن سيرته وتاريخه، ويجدّدون العهد بتعاليمه.

بقي أن نشير إلى أن المخالفين لإقامة هذه المناسبات، ربما استشهدوا بحصول بعض الممارسات الخاطئة في برامج هذه المناسبات كمبرر للمنع والتحريم، وهو استدلال غير علمي ولا موضوعي، لأن كثيرا من البرامج الدينية والاجتماعية قد تتسلل إليها بعض الممارسات الخاطئة، فهل نحرّم تلك البرامج ونمنعها بالكامل أم نعارض الأخطاء بحدودها، فلو استخدمت الصلاة لخداع الناس - والخداع محرم - فهل تحرم الصلاة؟، نعم العمل يجب أن يكون بعيدا عن المحرمات ، و(الاستدلال على الجواز أو المنع بالأمور الجانبية خروج عن الاستدلال الفقهي ، فإن الحكم بالجواز والمنع ذاتا يتوقف على كون الشئ بما هو هو جائزا أو ممنوعا ، وأما الاستدلال على أحدهما بالأمور الطارئة فليس استدلالا صحيحا)[8] 

ولو دارت المسألة في إقامة الاحتفالات والمناسبات الدينية في إطار اختلاف الرأي لا مانع من ذلك، فلكل طرف رأيه واجتهاده وقناعته، ولا يصحّ أن تتحوّل هذه المسألة إلى صراع وصدام.

المحور الثاني: عاشوراء نموذجًا

في تاريخنا الإسلامي وقائعُ لها أهمية، ومنعطفاتٌ تشكّل لحظات مصيرية في تاريخ الأمة، وتؤثّر على وجدانها وثقافتها، وعلى واقعها الاجتماعي والسياسي. هذه الأحداث يمكن أن تكون مصداقًا لعنوان «أيام الله» الوارد في القرآن الكريم.

ويمكننا ـ بكل ثقة ـ أن نَعُدَّ «يوم عاشوراء» مصداقًا بارزًا من بين تلك الأحداث، وذلك لما تحفل به هذه الحادثة من دروس وعبر وقيم للأمة وجماهيرها الواسعة.

«عاشوراء» مصطلح إسلامي

يشير بعض علماء اللغة إلى أن مصطلح «عاشوراء» مصطلح إسلامي لم يكن في الجاهلية. هذا ما أكّده ابن دريد في الجمهرة: عاشوراء يوم سمّي في الإسلام ولم يعرف في الجاهلية[9] .

ويُقْصَد به اليوم العاشر من المحرّم، ولا يطلق على أي يوم عاشر من أي شهر غير المحرّم.

وهناك من يرى أنه ـ كمصطلح ـ كان متداولًا قبل الإسلام، ويروون في ذلك بعض الروايات في صحيحي البخاري ومسلم، فقد جاء ـ فيهما واللفظ للبخاري ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: قَدِم النبي المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا؟» قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال: «فأنا أحق بموسى منكم». فصامه وأمر بصيامه [10] . وفي مسلم (نحن أحق بموسى منكم) فأمر بصيامه[11] .

وجاء عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فُرض رمضان، كان من شاء صام، ومن شاء أفطر» [12] .

كان ذلك قبل فرض صيام شهر رمضان، فلمّا فُرِض صيام شهر رمضان أصبح صوم يوم عاشوراء ليس مفروضًا على المسلمين، وإنما عدُّوه مستحبًا.

ولكنّ مدرسة أهل البيت تتحفظ على هذه الأحاديث من ناحية السند، وتناقش أيضًا في المضمون، وقد قام الشيخ نجم الدين الطبسي بإحصائها ومناقشة متنها وسندها في كتابه (صوم عاشوراء)[13]  وتذهب هذه المدرسة إلى أن هذا المصطلح يظل مصطلحًا إسلاميًّا تعارف المسلمون عليه بسبب الواقعة التي حصلت فيه باستشهاد الإمام الحسين في ذلك اليوم.

التعتيم على واقعة «عاشوراء»

حينما نقرأ التاريخ نجد أن بني أميّة كانوا يريدون التعتيم على هذه الحادثة، لينسى الناس ما حصل لأهل البيت في كربلاء، ومن أجل ذلك كانوا يعلنون ذلك اليوم عيدًا ويوم فرح وسرور، وهذا ما نجد الإشارة إليه في إحدى فقرات الزيارة الواردة عن الإمام الباقر ، حيث يقول فيها: «... اَللّـهُمَّ إن هذا يَوْمٌ تَبَرَّكَتْ بِهِ بَنُو أمَيَّةَ وَابْنُ آكِلَةِ الأكبادِ »[14] .

وورد في كتب التاريخ ـ كما ينقل أبو الريحان البيروني في الآثار الباقية، «فأما بنو أمية، فقد لبسوا فيه ما تجدد، وتزيّنوا، واكتحلوا، وعيّدوا، وأقاموا الولائم والضيافات، وأطعموا الحلاوات والطيبات، وجرى الرسم في العامة على ذلك أيام ملكهم، وبقي فيهم بعد زواله عنهم»[15] .

ورووا في ذلك أحاديث وروايات موضوعة ومجعولة، كما يشير ابن تيمية، فيقول: «.. وإظهار الفرح والسرور يوم عاشوراء، وتوسيع النفقات فيه، هو من البدع المحدثة، المقابلة للرافضة»، وأضاف ابن تيمية، «.. وقد وُضِعَت في ذلك أحاديث مكذوبة في فضائل ما يصنع فيه، من الاغتسال والاكتحال إلخ ...» وقال: «.. وأحدث فيه بعض الناس أشياء، مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها، مثل: فضل الاغتسال فيه، أو التكحل، أو المصافحة»[16] .

ومن أمثلة هذه الروايات الموضوعة ما رووه عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ[17]  قوله: «وكان يوم الزينة يوم عاشوراء»[18] .

وزعم البعض أن الاكتحال في هذا اليوم مانع من الرمد في تلك السنة[19] .

ولعل التفسير بيوم عاشوراء من البدع الأموية وإعلامهم المضلل للتغطية على الجريمة الكبرى التي صدرت منهم في كربلاء بحق سيد شباب أهل الجنة وأهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولأجل التصغير من حجمها والتقليل من شأنها.

وهذا ما أثبته العيني في كتابه عمدة القاري حيث يقول: ما ورد في صلاة ليلة عاشوراء ويوم عاشوراء وفي فضل الكحل يوم عاشوراء لا يصح ومن ذلك من اكتحل بالأثمد وهو حديث موضوع وضعه قتلة الحسين[20] .

ولكنّنا نجد في قبال هذه الأحاديث الموضوعة أحاديثَ صحيحة في مصادر المسلمين باختلاف مذاهبهم تبيّن اهتمام رسول الله وإعلانه لحزنه وألمه لما يحدث من بعده لسبطه الإمام الحسين يوم عاشوراء، وهذا مروي في المصادر الصحيحة المعتمدة عند أهل السنة وبأسناد صحيحة عندهم.

من ذلك ما يذكره الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث ـ وهي لبابة زوج العباس بن عبد المطلب أول امرأة أسلمت في مكّة بعد أم المؤمنين خديجة ـ تقول أنها دخلت يومًا على رسول الله فقالت: «يا رسول الله، إني رأيت حلمًا منكرًا الليلة»، قال: «ما هو؟»، قالت: «إنه شديد»، قال: «ما هو؟»، قالت: «رأيت كأن قطعة من جسدك قُطِّعَت ووضعت في حجري»، فقال رسول الله : «رأيت خيرًا، تلد فاطمة ـ إن شاء الله ـ غلامًا فيكون في حجرك» فولدت فاطمةُ الحسينَ فكان في حجري، كما قال رسول الله 7، فدخلت يومًا إلى رسول الله فوضعته في حجره، ثم حانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله تهريقان من الدموع، قالت: فقلت: «يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، ما لك؟» قال: «أتاني جبرئيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا. فقلت: «هذا؟» فقال: «نعم»، وأتاني بتربة من تربته حمراء».

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه[21] .

وأورد المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الحديث السابق في سلسلة أحاديثه الصحيحة تحت رقم 821 وعلّق عليه بقوله: «له شواهد عديدة تشهد لصحته، منها: ما عند أحمد بن حنبل (6/294) حدثنا وكيع قال: حدثني عبد الله بن سعيد عن أبيه عن عائشة أو أم سلمة، أن النبي قال لإحداهما: «لقد دخل عليّ البيت مَلَك لم يدخل عليّ قبلها، فقال لي: «إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها»، قال: فأخرج تربة حمراء». قال الألباني: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقال الهيثمي (9/187): «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» [22] .

وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، حديث رقم 648، بسنده عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، أنه سار مع علي، وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، فنادى علي: اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله، بشط الفرات، قلت: «وماذا؟»، قال : «دخلت على النبي ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: «يا نبي الله، أأغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟»، قال: «بل قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات»، قال: فقال: «هل لك إلى أن أُشمك من تربته؟» قال: قلت: «نعم». فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا»[23] .

في هذه الأحاديث وأمثالها ما يدلُّ على أن رسول الله كان يهتمّ بيوم عاشوراء كواقعة، وهذا أمر كان بيِّنًا واضحًا لدى أمهات المؤمنين ولدى أصحابه وأهل بيته. وفي هذا يقول ابن عبّاس: «ما كنّا نشكُّ وأهلُ البيت متوافرون أن الحسين يقتل بالطف»[24] .

كل هذا يدلُّ على أهمية الواقعة التي كان رسول الله يذكّر بها أصحابه وأهل بيته قبل وقوعها بنصف قرن من الزمان.

بل هذا واضح من سيرة أهل البيت حيث  اتخذوا هذا اليوم يوم حزن وبكاء، روي عن عبد الله بن سنان قال : دخلت على أبي عبد الله يوم عاشوراء ، [فألفيته كاسف اللون ظاهر الحزن] ، ودموعه تنحدر عن عينيه كاللؤلؤ المتساقط ، فقلت : مم بكاؤك؟ فقال: . أو في غفلة انت؟ أما علمت أن الحسين أصيب في مثل هذا اليوم ؟[25] .

ماذا تمثّل عاشوراء في ضمير المسلمين؟

عاشوراء كواقعة من أهم الأحداث التي وقعت في تاريخ الأمة الإسلامية تمثّل لنا أمرين مهمّين، هما:

(1) عظمة الموقف المبدئي الذي وقفه سيد الشهداء الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم، إذ كانوا قلّة قليلة، ولكنهم ضربوا أروع الأمثلة في الصمود والثبات، والالتزام بالقيم، والدفاع عن المبادئ، والاعتراض على الظلم والفساد والانحراف. ونحن حينما نتذكّر عاشوراء إنما نتذكّر هذه المواقف العظيمة السامية الرائعة.

(2) بشاعة الظلم الذي وقع على أهل البيت وانتهاك حرمات الله في ذلك اليوم.

فالإمام الحسين لم يكن رجلاً عاديًّا، وإنما له شخصيته ومكانته وموقعيته التي لا يجهلها أحد من المسلمين. كما أنه لم يمضِ وقت طويل على وفاة رسول الله ، الذي كان المسلمون يسمعون منه ويرون مواقفه التي يعبّر فيها عن حبّه للحسين وانشداده له.

لقد قال رسول الله على مرأى من الصحابة ومسمع منهم: «إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا»[26] ، وفي صحيح البخاري في باب مناقب المهاجرين وفضلهم عن ابن عباس قال سمعت رسول الله يقول: (هما ريحانتاي من الدنيا)[27] .

وفي موضع آخر سمعوا قوله : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما»[28] .

وروى عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله في إحدى صلاتي العشى الظهر أو العصر وهو حامل حسن أو حسين فتقدم النبي فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها قال إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله وهو ساجد فرجعت في سجودي فلما قضى رسول الله الصلاة قال الناس يا رسول الله انك سجدت بين ظهري الصلاة سجدة أطلتها حتى ظننا انه قد حدث أمر أو انه يوحى إليك قال كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضى»[29] .

وغيرها من الأحاديث التي كان يتذكّرها المسلمون ويروونها لبعضهم ويتناقلونها فيما بينهم.

لذلك لا يمكن عَدّ ما حصل يوم العاشر من المحرّم من انتهاك للحرمات حدثًا عاديًّا، بل يجب التأمّل فيه جيدًا، والوقوف عند محطّات هذه الحادثة للاستفادة من أحداثها والدروس العظيمة التي تجلّت فيها.

والحمد لله رب العالمين

[1]  سورة إبراهيم: الآية 5.
[2]  التحرير والتنوير ج12 ص223.
[3]  صحيح مسلم، باب فضائل الخضرA، ص 1294ح2380، وبحار الأنوار ج67 ص20 ح17.
[4]  كنز العمال ج12 ص420 ح35469.
[5]  الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج19، ص84، ط3 دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
[6]  في ظلال القرآن ج4 ص2088
[7]  الأمثل ج7 ص402.
[8]  السبحاني: جعفر، البدعة مفهومها، وحدها وآثارها ص138.
[9]  الجمهرة في لغة العرب، باب ر ش ع.
[10]  صحيح البخاري، ج1، ص492، ح2004.
[11]  صحيح مسلم،ص571،ح1130 باب صوم يوم عاشوراء
[12]  المصدر السابق، ح2001.
[13]  الطبسي: الشيخ نجم الدين، صوم عاشوراء، دارة الولاء – بيروت، ط1، 2002م.
[14]  مفاتيح الجنان، ص555.
[15]  المواسم والمراسم، ص84.
[16]  كتاب اقتضاء الصراط المستقيم، ص300.
[17]  سورة طه: الآية 59.
[18]  تفسير ابن كثير ج3 ص156.
[19]  المصدر نفسه، ص86.
[20]  صوم عاشوراء بين السنة النبوية والبدعة الأموية ص 123.
[21]  الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص194.
[22] الألباني: محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج2، ص485.
[23]  بن حنبل: الإمام أحمد، مسند الإمام أحمد بن حنبل، ج1، ص264.
[24]  الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص197، ح4826.
[25]  وسائل الشيعة ج10 ص459 ح13844.
[26]  كنز العمال ج12 ص113 ح34251.
[27]  صحيح البخاري باب مناقب المهاجرين وفضلهم ج4 ص217.
[28]  المستدرك على الصحيحين ج3 ص182 ح4779.
[29]  مسند احمد بن حنبل ج8 ص928 ح28199.