معاناة الرسول (ص) في تبليغ الرسالة
يبدي كثير من الباحثين الأجانب غربيين وشرقيين دهشتهم لضخامة الإنجاز الذي حققه الرسول محمد ، في مدة قياسية، ومساحة زمنية محدودة، فما كاد يمر على بدء الدعوة عقد ونصف من الزمن، حتى تمكن رسول الله من بناء مجتمع إيماني متماسك، واقامة كيان رسالي متحضر، على أنقاض حياة جاهلية قبلية متخلفة. لينطلق بعد ذلك مارد الحضارة الإسلامية المشرقة.
وفي الحقيقة فإن النشاط الجاد المكثف، والجهد الدعوي الكبير، الذي بذلـه رسول الله ، هو الذي اختصر أمام الرسالة مسافة الزمن، وضاعف من سرعة خطوات حركتها المباركة. وذلك بتوفيق الله تعالى ورعايته.
فبعد نزول الوحي عليه أصبح في حركة دائبة، وسعي متواصل، لم يعرف للراحة طعما، ولم يجد التعب والكلل إليه سبيلا. وتقلص حتى نومه في الليل، استجابة لأمر ربه تعالى الذي حمله المسؤولية الخطيرة الثقيلة وخاطبه بقوله: [q]يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا[/q].
وقد روي عن السيدة خديجة أم المؤمنين: أن رسول الله لما نزل عليه الوحي، ترك كل راحة، وكان يدأب ليل نهار في العبادة والعمل، فقلت له: يا رسول الله ألا تستريح ألا تنام؟ فقال: «لقد مضى عهد النوم يا خديجة. »
وكانت قضية الرسالة تأخذ من نفسه مأخذا كبيرا، حتى دعاه الله تعالى الى الرأفة بنفسه، والشفقة عليها، وخاطبه تعالى بقوله: [q]طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى[/q].
كان قبل البعثة يعيش حياة راحة ودعة، فهو ينتمي الى أفضل أسرة في قريش، ويحظى بحب شيوخ أسرته واحترامهم، فهو قد ولد يتيما، حيث مات أبوه عبدالله في ريعان شبابه، وبعد ذلك فقد أمه آمنة بنت وهب، مما جعله محل عطف وشفقة زعيم الأسرة جده عبدالمطلب، ثم موضع تقدير خلفه في الزعامة أبي طالب، اضافة الى حسن سلوكه ومكارم أخلاقه، فقد أكسبته الاحترام العام في المجتمع، حيث لم يلحظ عليه احد اي ميل أو نزوع لنزق الشباب آنذاك وطيشهم، ولم تجتذبه أي ممارسة من العادات والتقاليد الوثنية الجاهلية، وما سجل عليه خلل في قول، ولا خطل في فعل، فأصبح يعرف وسط مجتمعه بالصادق الأمين.
وزواجه من خديجة بنت خويلد، أثرى وأعز امرأة في قريش، والتي كان الرجال يتاجرون في أموالها، وكان الزعماء يطمحون للاقتران بها، هذا الزواج والذي جاء برغبة منها، وفر للنبى أجواء هانئة، وعيشة مستقرة وادعة.
حيث أغدقت عليه خديجة حبها وحنانها، ووضعت تحت تصرفه كل ثروتها وإمكاناتها.
هكذا كانت حياته قبل البعثة، استقرارا نفسيا، وسعادة عائلية، ورخاء اقتصاديا، واحتراما وسمعة اجتماعية.
وما أن صدع محمد برسالة ربه، وأعلن ثورته الإلهية على واقع الوثنية والشرك، حتى انقلبت أوضاع حياته رأسا على عقب، حيث لم يكن من السهل على أولئك الناس الذين ألفوا عبادة الأصنام، ونشأوا على الوثنية والفساد، أن يتخلوا عن عاداتهم وممارساتهم المتجذرة في حياتهم، كما أن الزعامات ومراكز القوى كانت تريد الحفاظ على نفوذها ومكانتها، وترى في الرسالة الجديدة نسفا لمواقعها، وتهديدا لمصالحها.
من هنا فقد انتفض الجميع في مكة رفضا لرسالة محمد، ومعارضة لدعوته، وعداء ومناوأة لشخصه ووجوده. وشنوا عليه حربا ضارية شاملة، فقد اتهموه بالكذب والجنون والسحر، بعد أن كانوا يسمونه الصادق الأمين، وصاروا يواجهونه بالسخرية والإهانة والتحقير، بعد أن كان معززا محترما في أوساطهم، وتجرأ عليه حتى جهالهم وسفهاؤهم يؤذونه حينما يمشي في الطريق. ثم تطور عدوانهم الى حالة فرض الحصار الاقتصادي، والمقاطعة الاجتماعية عليه وعلى أسرته بني هاشم، فاتفقت قبائل قريش وتعاهدت على ذلك، وكتبوا صحيفة علقوها في جوف الكعبة، بأن لا ينكحوا أحدا من بني هاشم، ولا ينكحوا منهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله للقتل.
ولجأ محمد وأسرته الى شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، يعانون الحرمان والحصار الاقتصادي والاجتماعي، ولا يجدون في بعض الأحيان وسيلة الى الطعام يدفعون بها جوعهم.
روى البلاذري عن ابن عباس قال: حصرنا في الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنا الميرة حتى أن الرجل ليخرج بالنفقة فما يبايع حتى يرجع، حتى هلك من هلك.
قال ابن اسحاق وغيره: فأقاموا على ذلك ثلاث سنين حتى جهدوا، ولا يصل اليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش. حتى أكلوا ورق الشجر اليابس ليدرأوا به غوائل الجوع، وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب يتضاغون من الجوع.
من أصعب ألوان المعاناة على الإنسان، اذا كان محترما عزيزا وصاحب سمعة في مجتمعه، أن تتعرض صورته للتشويه، وأن تتحطم سمعته ومكانته عند من حوله، وهذا ما واجهه رسول الله من المشركين، فقد صبوا عليه صنوف الأذى والإهانة، فتحملها في سبيل الله صابرا محتسبا، حتى قال ـ كما روى عنه أنس بن مالك ـ: «ما أوذي أحد مثل ما أوذيت في الله».
ولننقل بعض صور المعاناة التي تحملها رسول الله .
كان رسول الله غنيا يتصرف في أموال زوجته خديجة كما يشاء، لكنه أنفقها في سبيل الله، كما عاش حالة الحصار والمقاطعة من قبل المشركين، لذلك كانت تمر عليه فترات من الزمن وهو يتضور من الجوع، ولم يكن يتوافر له في اليوم من الطعام إلا مقدار بسيط يمكن اخفاؤه تحت الإبط، كما روي عنه أنه قال: «لقد أتت علي ثلاثون من يوم وليلة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال».
كم هو صعب على الانسان إيذاء الأقربين له؟ وكم هو مؤلم أن يشهر به ويعيبه أرحامه؟ هكذا كانت حال رسول الله مع عمه أبي لهب.
عن طارق المحاربي قال: رأيت رسول الله بسوق ذي المجاز فمر وعليه جبة له حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته: «يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»، ورجل يتبعه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها الناس! لا تطيعوه فإنه كذاب، قلت:من هذا؟ قالوا: غلام من بني عبدالمطلب، قلت: فمن هذا يتبعه يرميه؟ قالوا: هذا عمه عبدالعزى وهو أبو لهب.
روى البخاري وابن المنذر وبو يعلى والطبراني عن عروة قال: سألت عمرو بن العاص فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله . قال: بينما النبي يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقا شديدا.
روى البزار وأبو يعلى برجال الصحيح عن أنس (رضي الله عنه): لقد ضربوا رسول الله حتى غشي عليه. فقام أبو بكر ينادي: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، فقالوا: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر.
روى الشيخان والبزار والطبراني عن عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: ما رأيت رسول الله دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور (كرش ناقة مذبوحة) نحرت بالأمس قريبا، فقالوا: من يأخذ سلا هذا الجزور فيضعه على كتفي محمد اذا سجد، فانبعث أشقاهم عقبة بن أبي معيط، فجاء به فقذفه على ظهره، فضحكوا وجعل بعضهم يميل الى بعض، والنبي ما يرفع رأسه، وجاءت فاطمة عليها السلام، فطرحته عن ظهره، ودعت على من صنع ذلك. فلما قضى رسول الله صلاته، رفع رأسه فحمد الله تعالي وأثنى عليه ثم دعا عليهم، وكان اذا دعا دعا ثلاثا، واذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: «اللهم عليك بالملأ من قريش».
وإذا كان رسول الله قد أعطى كل وجوده وحياته، وتحمل ضروب الأذى والمشاق في سبيل الدعوة الى الله، فهل نبخل نحن بأنفسنا وأموالنا وأوقاتنا وسمعتنا وجاهنا؟
إن البعض يتلكأ عن تحمل أبسط المسؤوليات، والقيام بأقل المهام، حفاظا على راحته، وحرصا على جاهه وسمعته، فكيف اذا ننال ثواب الله إذا لم نضحي ونتحمل الأذى في سبيله؟ ثم كيف ندعي الانتماء الى رسول الله ولا نحاول التأسي به؟