كيف نفهم أطفالنا؟
إذا كانت التربية تعني تنشئة الطفل ورعاية نموه في الأبعاد المختلفة جسديا ونفسيا وعقليا وسلوكيا، فإنها بحاجة إلى وعي وتخطيط ومعرفة، إن تصنيع أي جهاز من الأجهزة يستلزم معرفة وخبرة سابقة، وكلما كان الجهاز أكثر دقة وتعقيدا تطلب مستوى أعلى من المهارة عند صانعه.
والتربية هي صناعة الشخصية الإنسانية، بما تحمل من مؤهلات وكفاءات، وتتطلع إليه من دور وإنجاز. ومما يلفت النظر أن الله تعالى قد عبر عن التربية بالصناعة والتصنيع، في الحديث عن نشأة نبي الله موسى عليه وعلى نبينا وآله السلام وإعداده لدور الرسالة والقيادة، يقول تعالى: ﴿وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني﴾.
لكن ما نلحظه من واقع حياة الناس، أن الأكثرية يتعاملون مع تربية أطفالهم كعمل عفوي، ينطلق من العادات الموروثة، ويحكمه المزاج الشخصي الآني.
إن نسبة الإنجاب والمواليد في مجتمعاتنا تعتبر من أعلى المعدلات في العالم، فعندنا في المملكة مولود جديد كل دقيقة، وحسب إعلان لوزارة الصحة: انه في شهر رمضان الفائت 1420هـ كان عدد المواليد في المملكة 45.000 مولود أي بمعدل كل أربعين ثانية مولود جديد.
والسؤال المطروح هو مدى توفر الجدارة والتأهل التربوي عند العوائل التي تستقبل هذا العدد الكبير من المواليد.
إن أغلب الشباب والفتيات حينما يبدؤون حياتهم الزوجية، ويصبحون على أعتاب مرحلة الوالدية، لا يهتمون بالاستعداد لهذه المرحلة، بالتعرف على عالم الطفل الذي ينتظرونه بلهفة وشوق، وبتحصيل معرفة مناسبة عن برامج التربية وأساليبها ووسائلها، ليكونوا قادرين على إنجاز هذه المهمة بنجاح.
إن مناهج الدراسة والتعليم للشباب والفتيات خاصة في المراحل المتقدمة كالثانوية والجامعة ينبغي أن تولي هذا الجانب اهتماما مناسبا، لأن رواد هذه المراحل يقتربون من الدخول في فئة الآباء والأمهات.
والمؤسسات الدينية والاجتماعية والثقافية في المجتمع يجب أن تضع برامج للإعداد والتوعية التربوية، فذلك يوفر عليها الكثير من الجهود المستقبلية، ويساعدها على تحقيق أهدافها في اصلاح وارشاد المجتمع. لأننا إذا علمنا العوائل كيف تربي أبناءها تربية سليمة، فسنكسب جيلا أقرب الى الصلاح، وأسرع استجابة الى الخير.
إن وجود دورات مركزة ولو لعدة ساعات يمكن أن تفتح آفاق ذهن المقبل على مرحلة الوالدية، ليكون أكثر تفهما وإدراكا لمتطلبات العملية التربوية.
ولوسائل الإعلام والتثقيف دور هام يمكن أن تؤديه في هذا المجال، عبر البرامج المختلفة، ونشر الكتب التوجيهية والمتخصصة في الحقل التربوي، وقد لفت نظري عنوان كتاب صادر عن معهد "جيزيل" لنمو الطفل، ترجمه الى اللغة العربية الدكتور فاخر عاقل، بعنوان (التهيؤ للوالدية) وهو يتحدث كما يشير عنوانه عن تحضير الوالدين لصناعة الوالدية، ويحدثهم عن المشكلات المختلفة التي تصادف الوالدين والحلول العملية لها. وفي تراثنا الاسلامي مخزون عظيم من المفاهيم والمعارف والارشادات التربوية، التي لو قدر لها أن تنشر وتتداول في أوساط المجتمع، لأنتجت وعيا عاما باتجاه أفضل الأساليب التربوية. وهنا تأتي مسؤولية علماء الدين وخطباء المنبر، ليولوا هذا الجانب اهتماما أكبر في أحاديثهم وخطاباتهم.
ربما ينظر الكثيرون لأطفالهم نظرة بسيطة ساذجة، فالطفل عندهم مساوق للجهل وعدم الفهم والإدراك والشعور، وفي مجتمعنا يعبر عن الأطفال بـ(الجهال) فضمن التحية يسأل الواحد منا الآخر: كيف حال الجهال؟ أي الأولاد والأطفال! ويتحدث رب العائلة قائلا: سافرت مع الجهال!
وربما تستمر هذه النظرة عند بعض العوائل لأبنائها حتى حينما يتجاوزون مرحلة الطفولة، ويصبحون شبابا، لكنهم يبقون في نظر أهاليهم أطفالا وجهالا.
إنها نظرة خاطئة فالطفل ليس عديم الإدراك والفهم والشعور كما يتصور الكثيرون، إنه يتحسس ما حوله، وتستيقظ مداركه في وقت مبكر، ويسجل الانطباعات ويلتقط الصور، وتبدأ عملية التكون والتشكل لشخصيته المستقبلية وللدعامات التي ترتكز عليها، منذ السنوات الخمس أو الست الأولى، والتي يطلق عليها علماء التربية السنوات التكوينية.
«فقد أثبتت الدراسات الإكلينيكية وكذلك الملاحظات التجريبية التتبعية أن السمات الأساسية للشخصية عند الكبير ما هي إلا امتداد لتأثير الخبرات الطفلية المبكرة التي سبق أن مر بها فمنذ الأسابيع الأولى في عمر الطفل تبدأ قابليته للتعلم، والمقصود بالتعلم هنا، إما اكتساب مثيرات شرطية، عن طريق الاشراط الاستجابي أو الكلاسيكي ـ وإما تعديل في السلوك الإجرائي ـ عن طريق التدعيم أو مبدأ الاشراط الاجرائي ـ وأفادت تجارب كثيرة أن الطفل يمكنه في وقت مبكر جدا، أن يكتسب مثيرات شرطية مثل صوت شوكة رنانة مثلا، أو إضاءة ضوء، وذلك بالنسبة لأفعال منعكسة مثل رمش العين، أو حركة الرضاعة عندما تقترن تلك المثيرات بالمثيرات الطبيعية لهذه الأفعال المنعكسة».
وعندما يصل الوليد إلى سن الثالثة يكون قد حقق نموا حركيا ومعرفيا سريعا، نموا يتضمن أكثر من مجرد زيادة في الوزن والحجم، فمع تقدم السن يتقدم الطفل بشكل واضح في النمو الحركي، ونمو التآزر والنمو المعرفي بالبيئة المحيطة به، من عالم البشر وعالم الأشياء. وتؤكد دراسات علمية أن الوليد يستطيع ابتداء من الشهر الرابع أن يميز الانفعالات التي تظهرها تغيرات الوجه البشري. فهو في هذا الشهر يطيل النظر في الوجوه المعبرة بالفرح، أكثر مما يفعل بالنسبة للوجوه الغاضبة أو المحايدة.
وملحوظ أن الطفل بعد سن الثانية تنمو لديه المفردات الكلامية بسرعة كبيرة، فعندما يصل السنة الثانية تكون حصيلته في حدود الخمسين مفردة لكنه في الثانية والنصف يصل متوسط عدد المفردات لديه الى 400 كلمة تقريبا، وببلوغه الثالثة يمتلك ما يقارب الألف كلمة في المتوسط، ويبدأ في تركيب الكلمات على شكل جمل مفيدة، ويصبح 80% من كلامه مفهوما للسامع، وفي السنة الرابعة يتقن اللغة تماما.
وما الأسئلة الكثيرة التي يمطر بها الطفل والديه عن كل شيء يستوقفه إلا مؤشر على تيقظ مداركه، ونشاط أحاسيسه ومشاعره.
ويركز الأطفال ملاحظتهم على سلوك وتصرفات من حولهم، ويكتسبون من تلك الملاحظة، في بناء قناعات وتصورات داخل نفوسهم تبقى آثارها على أفكارهم وتوجهاتهم المستقبلية، كما يندفعون لمحاكاة ما يشاهدون ويلاحظون.
هذه العينات من مظاهر النشاط الذهني والنفسي والسلوكي عند الطفل تفرض علينا إعادة النظر في رؤيتنا وفهمنا لعالم الطفولة، فالطفل ليس ذلك الكائن الجاهل الذي لا يمتلك أي مستوى من الإدراك والشعور، بل هو مشروع شخصية تأخذ في النمو والتكامل، وتنطوي على قدر من الفهم الإحساس يتزايد ويتصاعد يوما بعد آخر.
الأطفال نعمة وأمانة:
الأطفال ليسوا ممتلكات يتصرف فيها الوالدان كما يحلو لهما، بل هم نعمة وأمانة من قبل الله تعالى، نعمة تستوجب الشكر، وشكرها القيام بواجب الرعاية والتربية، وأمانة تترتب عليها المسؤولية والالتزام.
والوالدان مسؤولان أمام الله عز وجل عن تعاملهما مع أولادهما الصغار، إضافة الى تحملهما لنتائج التربية في حياتهما.
وإذا كان الطفل لا يملك قوة تردع الإساءة، فهو تحت تصرف أبويه، لكن الله تعالى هو الجهة التي تقف خلفه، وترصد أي إساءة تتوجه إليه.