تحدي العوائق
قد يواجه الانسان عائقا قاهرا يصعب اقتلاعه وتجاوزه، اما لطبيعة ذلك العائق، كالعاهات والاعاقات الجسدية، واما لاستلزامه ظرفا وقدرة لا يمتلكها الانسان بالفعل وهنا يجب ان يتحلى الانسان بالواقعية، فلا يصبح اسيرا لتلك المشكلة التي لا يمتلك حلها بالفعل، بل يخرج عن سيطرتها على نفسه ومشاعره، ويلتفت الى سائر نقاط قوته، والى الامكانيات المتوافرة لديه، والفرص الاخرى المتاحة امامه، وبذلك يستطيع ان يحقق لنفسه تقدما ونموا يعوض له ما فقده من تطلع ورغبة بسبب تلك العوائق، وقد يجد نفسه في موقع افضل ومستوى اعلى.
ان من يعيش في مقتبل عمره حالة يتم بفقد والديه او احدهما، فيعاني حرمانا عاطفيا، ويفتقد الرعاية التي يرى غيره يتمتع بها، هذا الانسان اذا سيطرت على نفسه معاناة اليتم، وخضع لها، فسيعيش الالم والتمزق النفسي، الذي قد ينعكس عليه اكتئابا واحباطا، وقد يدفعه لتوجهات سلبية خاطئة. وستكون حياته متخلفة، ومستقبله سيئا.. بينما لو تكيف مع حالة اليتم كأمر واقع، لا يستطيع تغييره ولا تبديله، واتجه لاكتشاف قدراته، وتنمية طاقاته، فانه سيصبح في وضع جيد، ومستوى متقدم، يتوفق به على اخرين عاشوا في كنف آبائهم وامهاتهم، لكنهم لم يمتلكوا مؤهلاته ومستواه. وكذلك من يبتلى باعاقة جسدية كفقد البصر، او تشوه الخلقة، او حالة كساح او شلل.. فانه اذا وقع في اسر معاناته، واستجاب نفسيا لحالة النقص التي عنده، فسيحكم على نفسه بالانزواء والانهيار، أما اذا تجاوز تلك الاعاقة نفسيا، وفتش عما لديه من نقاط قوة اخرى، وفعلها ونماها، فسيكون مرشحا للعب دور مؤثر في الحياة، قد يتفوق من خلاله على الاصحاء العاديين. وكم من معوق اصبح في مصاف العظماء، وحقق تقدما وانجازا في تاريخ البشرية..
ونقرأ في تاريخنا العربي عن شخصية رائدة في الفلسفة والأدب هو ابو العلاء المعري (363 ـ 449هـ، 973 ـ 1057م) والذي فقد بصره وهو في الرابعة من عمره اثر اصابته بالجدري، لكنه اقبل على العلم والأدب، ونمى في نفسه القدرة على الحفظ، فكان يبحث عن الكتب والمكتبات، ويجتهد في حفظ ما يقرأ عليه منها، حيث توجه من بلدته حلب الى انطاكية واستفاد من مكتبة عامرة فيها، تشتمل على نفائس الكتب، فحفظ منها ما شاء الله ان يحفظ، وذهب الى اللاذقية فدرس اليهودية والنصرانية، وزار طرابلس قاصدا مكتبة كبيرة فيها، ثم تردد في طور لاحق على مكتبات بغداد ودور العلم فيها، فأصبح اديبا نابغا، روى الثعالبي عن ابي الحسن المصيصي الشاعر قوله: لقيت بمعرة النعمان عجبا من العجب، رأيت اعمى شاعرا ظريفا يدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي اذ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء. واشار ابن العديم الى قوة حفظ ابي العلاء برواية حكاية عن ابن منقذ ذكر فيها انه يقرأ عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة فيحفظهما، ولم يعلم له من شيوخ بعد سن العشرين، وذكر هو انه لم يحتج اليهم بعدها. ان فقد البصر لم يقعد به عن طريق المجد والتقدم، بل اكتشف موهبته في الحفظ ونماها، واستفاد من عشقه للعلم والمعرفة فنهل منها. واصبح شخصية علمية ادبية عالمية. ومن الامثلة المعاصرة لأشخاص تجاوزوا اعاقتهم، وحلقوا في سماء العظمة والعبقرية، العالم البريطاني المعروف (استيفن هاوكنج) والذي يعد ابرز العلماء في الفيزياء والرياضيات، في النصف الثاني من القرن العشرين.. لقد اصيب بمرض وهو في السابعة من عمره، وصارع المرض حتى اصبح كسيحا يتحرك على مقعد ذي عجلات، ولا يستطيع التكلم بشكل طلق ومفهوم، فلا تفهم له الا سكرتيرته او تلامذته القريبون، لكنه صاراستاذ الرياضيات العليا في جامعة (كامبردج) الشهيرة، وعين وعمره 32 سنة في الجمعية العلمية الملكية البريطانية، وشغل فيها كرسي نيوتن، سنة 1974م. وقدم نظريات علمية عظيمة وجديدة حول الكون، وفي الفيزياء والرياضيات، وله ابحاث كثيرة مطبوعة، ترجم منها الى اللغة العربية كتابه (تاريخ موجز الزمان).
وعلى صعيد المجتمعات، قد يواجه مجتمع ما ظرفا قاهرا، تعاق فيه حركته، ويقع تحت سيطرة مناوئة، فاذا ما استسلم وخنع فسيعيش التخلف والذل، واذا ما سيطرت على ابنائه حالة الاحباط والقنوط فسينكفئون على انفسهم، وتظهر في اوساطهم تيارات العنف والتطرف، اما اذا شمروا عن سواعد الجد والنشاط، واهتموا ببناء كفاءاتهم، وصقل مواهبهم، واستغلال الفرص المتاحة أمامهم، فسيفرضون انفسهم على ساحة الحياة، ويصنعون لمجتمعهم معادلة جديدة من القوة والتقدم.
ولعل الشعب الياباني أفضل مثل يقدم في التاريخ المعاصر، فقد خرج هذا الشعب من الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، منهزما محطم القوى، بعد اصابته بالقنبلة الذرية في هيروشيما ونكازاكي.
وكانت خسائرهم البشرية تقدر بمليونين وثمانين الف انسان، وخسائرهم الاقتصادية تزيد على 562 مليار دولار. وحينما قرر الامبراطور الياباني وحكومته الاستسلام انتحر آلاف الضباط تألما واحتجاجا. وفرضت عليهم شروط وجود قواعد امريكية، وعدم عسكرة اليابان، وان يكون جيشهم بحجم حاجتهم الداخلية. لقد كان هذا الظرف قاهرا ومفروضا عليهم، ولا يستطيعون مواجهته بالقوة، لكنهم لم يستسلموا لليأس والقنوط، ولم تسيطر عليهم حالة الاحباط، ولم ينشغلوا باجترار الغبن، والبكاء الدائم على مصائبهم، بل سارعوا بعد تسعة اشهر من انتهاء الحرب الى تشكيل مجلس اعلى قرر البدء بالاصلاح الشامل، واتجهوا صوب التعليم، ونحو التصنيع التكنولوجي، وحفزوا الهمم في انفسهم، واجتهدوا في تفجير كفاءاتهم ومواهبهم، وأسسوا مجالس منتخبة لتطوير المدارس واستيعاب اكبر قدر من الطلاب فكان من نتائج ذلك ما يلي: اصبح الطفل الياباني في الرابعة عشرة من عمره، يتلقى تعليما لا يتلقاه الامريكي الا في الثامنة عشرة من عمره. وتبلغ ايام الدراسة في اليابان 220 يوما، بينما هي في امريكا 180 يوما.
وبينما يحقق الطالب الامريكي والاوروبي 100 نقطة في اختبارات الذكاء فان الطالب الياباني يحقق 117 نقطة. اما على الصعيد الاقتصادي فان الدخل القومي لليابان سنة 1951م كان يعادل ثلث الدخل القومي لبريطانيا، ونصف دخل امريكا، لكنه في سنة 1990م اصبح بمقدار ثلثي دخل امريكا وثلاثة اضعاف دخل بريطانيا!!
واصبحت اليابان اغنى دولة في اصولها المالية والعقارية، حيث وصلت ثروتها في هذا المجال الى 43 تريليون دولار، بينما تقدر ثروة امريكا في نفس المجال بـ 36 تريليون دولار.
وتعبيرا عن هذا التقدم الاقتصادي اصدر رئيس شركة سوني اليابانية كتابا سنة 1988م بعنوان (اليابان يمكن ان تقول لا للولايات المتحدة الامريكية).
ومعروف ان معدل الاعمار في اليابان هو الاعلى عالميا، حيث يصل الى 82 عاما للنساء، و76 عاما للرجال، وفيها اكثر من 4000 شخص اعمارهم تزيد على 100 عام.
هكذا تكون الفاعلية افضل طريق واحسن خيار للالتفاف على العوائق، ولتحقيق تطلعات التقدم والرقي، على صعيد الفرد والمجتمع.