تأثير المناصب على النفس والسلوك

 

ورد عن الإمام علي أنه قال: «الْوِلَايَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِ»[1] .

حين يحصل الإنسان على موقع أو منصب بارز في محيطه الاجتماعي، فإنه يكون أمام اختبار جديد وخطير، وذلك هو مقتضى شأن وجود الإنسان في هذه الحياة، فهي ساحة امتحان وابتلاء في كلّ حال من أحوالها، سواء كان حال قوة أو ضعف، حال خير أو شرّ، فالإنسان يمتحن بحال قوته، كما يمتحن بحال ضعفه، كيف يتصرف ويتعامل في كلا الحالين؟

يقول الله تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[سورة الأعراف، الآية: 168] .

ويقول تعالى عن نبيه سليمان: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ[سورة النمل، الآية: 40].

ويقول تعالى ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[سورة الأنبياء، الآية: 35].

امتحان ذو بعدين

حصول الإنسان على منصب اجتماعي مرموق، أو وظيفة رسمية بارزة، هو امتحان في بعدين:

البعد الأول: هل ينجح في إدارته لمنصبه وموقعه، أم يكون ضعيفًا فاشلًا؟،  وهل يكون مخلصًا نزيهًا أم انتهازيًّا، يستخدم المنصب لمصالحه الخاصة، على حساب المصلحة العامة؟!

البعد الثاني: هل سيؤثر المنصب على نفسه وسلوكه، فيأخذه الغرور والكبر على من حوله، فيتغيّر تعامله وتتبدّل أخلاقه مع المحيطين به، أم يبقى ملتزمًا بأخلاقياته وسلوكه؟!

حينما يحصل الإنسان على منصب، يتولد لديه شعور بالنشوة والقوة والاعتزاز، خصوصًا عندما يكون الحصول على الموقع عزيزًا نادرًا!

وإذا لم يكن الإنسان يقظًا متنبهًا لأجواء المنصب الذي تقلده، فربما يتحول الزهو والشعور بالقوة إلى حالة من الغرور والتكبر، فتتغيّر أخلاقه على من حوله!!

وقد تصل الحال بالبعض إلى ترك زيارة أرحامه وأقاربه وأصدقائه، بحجة أنه أصبح مشغولًا، أو يتخلى عن صلاة الجماعة وارتياد مجالس الذكر بحجة التزاماته المتعددة!

وعلى الإنسان هنا أن يقرأ حقيقة مشاعره، حتى لا يخدع نفسه، فقد تنمو لديه مشاعر سلبية دون أن يتفطّن لها، ويبرر سلوكه بمختلف المبررات. 

وقد يؤثر المنصب على أخلاق صاحبه، فيقلّ احترامه وتقديره للآخرين، ويتوقع أن يكون محطّ اهتمام وتبجيل الناس من حوله، فإذا قصّر أحد في إبداء التقدير له تأثر وأبدى انزعاجه!!

لهذا يقول أمير المؤمنين في هذه الكلمة المروية عنه: «الْوِلَايَاتُ مَضَامِيرُ الرِّجَالِ»[2] .

مَضَامِيرُ: جمع مضمار، وهو موقع سباق الخيل، فالإمام يرى أنّ المواقع والمناصب تكشف تقدّم الإنسان في مضمار الأخلاق أو تأخره!

السمو الأخلاقي في سيرة الإمام علي

في يوم الغدير أعلن رسول الله ولاية أمير المؤمنين ، لكنّ الإمام لم يكن يرى أنّ هذه الولاية (السلطة الزمنية) تزيده شأنًا أو تُشكِّل له إضافة، ولذلك حينما صرف منه هذا الموقع إلى غيره، ما كانت المسألة ضخمة في نفسه، وليست مهمة إلّا بمقدار تحمله المسؤولية الشرعية.

وقد عرض عليه منصب الخلافة بعد مقتل الخليفة الثاني، فقال له عبد الرحمن بن عوف: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟، فقال: «اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي»[3] .

فعرض الأمر على الخليفة عثمان فقبل.

وهكذا فوّت على نفسه الخلافة؛ لأنه يرى التزامه بالمبادئ أولى من تحصيل المواقع.

وعندما أتت إليه الخلافة، وبويع بعد تمنع، بقي على مبادئه، لم يغيّر من سلوكه وأخلاقه وتعامله مع الناس.

عن عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسِ، قال: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه.

فَقَالَ لِي: مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟

فَقُلْتُ: لَا قِيمَةَ لَهَا!

فَقَالَ : «واللهِ، لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ، إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا»[4] .

ويشير الشيخ المفيد إلى حادثة أخرى توضح تمسكه بمبادئه وقيمه، فعن ابن عباس قال: أتيتُهُ [يعني عليًّا] فوجدتُهُ يَخصِفُ نَعْلاً، فقلتُ له: نحنُ إِلى أنْ تُصلِح أمرَنا أحوجُ مِنّا إِلى ما تَصنعُ، فلم يكلِّمْني حتّى فَرَغَ من نَعلهِ ثمِّ ضمَّها إِلى صاحبتِها ثُم قالَ لي: «قَوِّمْها» فقلتُ: ليسَ لها قيمةٌ، قال: «على ذاكَ» قلتُ: كسر دِرْهَمٍ، قال: «والله لهما أحبُّ إِليَّ من أَمرِكم هذا، إِلّا أنْ أُقيمَ حقًّا أو أدفعَ باطلاً»[5] .

وفي كلمة أخرى له : «أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»[6] .

ومن كتاب له إلى أمرائه على الجيوش، يذكر فيه رؤيته لما يجب أن تكون عليه نفسية وأخلاق صاحب السلطة والمنصب، يقول : «أمّا بَعدُ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى الوالي أَلّا يُغَيِّرَهُ عَلى رَعِيَّتِهِ فَضلٌ نالَهُ، ولا طَولٌ خُصَّ بِهِ، وأن يَزيدَهُ ما قَسَمَ اللهُ لَهُ مِن نِعَمِهِ دُنُوّا مِن عِبادِهِ، وعَطفًا عَلى إخوانِهِ»[7] .

فإذا حصل الإنسان على موقع أو منصب يدنو من عباد الله، لا أن يبتعد عنهم، بحجة الانشغال أو التشاغل، ويزيد عطفه واهتمامه بإخوانه، فالمنصب نعمة من الله تحتاج إلى شكر، وشكرها أن يزداد دنوًّا من الناس وتواضعًا لهم.

وهذا ما كان عليه الإمام في خلافته، عن زاذان: رَأَيتُ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ يُمسِكُ الشُّسوعَ بِيَدِهِ، يَمُرُّ فِي الأَسواقِ، فَيُناوِلُ الرَّجُلَ الشِّسعَ، ويُرشِدُ الضّالَّ، ويُعينُ الحَمّالَ عَلَى الحَمولَةِ وهُوَ يَقرَأُ هذِهِ الآيَةَ: «تِلْكَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِيْ الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»، ثُمَّ يَقولُ: هذِهِ الآيَةُ أنزِلَت فِي الوُلاةِ وذَوِي القُدرَةِ مِنَ النّاسِ[8] .

(الشُّسوعَ): جمع شسع وهو ما يكون وسط النعل.

فكان الإمام علي يمشي في الطريق ولديه كمية من الشسوع، يقدمها لمن يحتاج إلى إصلاح نعله، ويرشد الضالّ، ويعين الحَمّالَ، وهو أمير المؤمنين والخليفة!

وقال أحدهم: رَأَيتُ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ اشتَرى تَمراً بِدِرهَمٍ، فَحَمَلَهُ في مِلحَفَتِهِ.

فَقالوا: نَحمِلُ عَنكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ؟

قالَ: لا، أبُو العِيالِ أحَقُّ أن يَحمِلَ[9] .

نماذج مشرقة

عن الإمام العسكري : وَرَدَ عَلى أميرِ المُؤمِنينَ أخَوانِ لَهُ مُؤمِنانِ أبٌ وَابنٌ، فَقامَ إلَيهِما، وأكرَمَهُما، وأجلَسَهُما في صَدرِ مَجلِسِهِ، وجَلَسَ بَينَ أيديهِما، ثُمَّ أمَرَ بِطَعامٍ فأحضِرَ، فَأَكَلا مِنهُ، ثُمَّ جاءَ قَنبَرٌ بِطَستٍ وإبريقِ خَشَبٍ ومِنديلٍ لِيَيبَسَ، وجاءَ لِيَصُبَّ عَلى يَدِ الرَّجُلِ ماءً، فَوَثَبَ أميرُ المُؤمِنينَ فَأَخَذَ الإِبريقَ لِيَصُبَّ عَلى يَدِ الرَّجُلِ!

فَتَمَرَّغَ الرَّجُلُ وقالَ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، اللهُ يَراني وأنتَ تَصُبُّ عَلى يَدي؟!

قالَ: اُقعُد وَاغسِل يَدَكَ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَراكَ وأخوكَ الَّذي لا يَتَمَيَّزُ مِنكَ، ولا يَتَفَضَّلُ عَلَيكَ يَخدُمُكَ، يُريدُ بِذلِكَ خِدمَةً فِي الجَنَّةِ، أقسَمتُ عَلَيكَ بِعَظيمِ حَقِّي، لَمّا غَسَلتَ يَدَكَ مُطمَئِنًّا كَما كُنتَ تَغسِلُ لَو كانَ الصّابُّ عَلَيكَ قَنبَرًا، فَفَعَلَ الرَّجُلُ ذلِكَ. فَلَمّا فَرَغَ ناوَلَ الإِبريقَ مُحَمَّدَ بنَ الحَنَفِيَّةِ وقالَ: يا بُنَيَّ، لَو كانَ هذَا الاِبنُ حَضَرَني دونَ أبيهِ لَصَبَبتُ عَلى يَدِهِ، ولكِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَأبى أن يُسَوِّيَ بَينَ ابنٍ وأبيهِ إذا جَمَعَهُما مَكانٌ، لكِن قَد صَبَّ الأَبُ عَلَى الأَبِ، فَليَصُبَّ الاِبنُ عَلَى الاِبنِ، فَصَبَّ مُحَمَّدُ ابنُ الحَنَفِيَّةِ عَلَى الاِبنِ»[10] .

وعن الإمام الباقر : «وَاللهِ، إنْ كانَ عَلِيٌّ لَيَأكُلُ أكلَ العَبدِ، ويَجلِسُ جِلسَةَ العَبدِ، وإن كانَ لَيَشتَرِي القَميصَينِ السُّنُبلانِيَّينِ فَيُخَيِّرُ غُلامَهُ خَيرَهُما، ثُمَّ يَلبَسُ الآخَرَ، فَإِذا جاز أصابِعَهُ قَطَعَهُ، وإذا جازَ كَعبَهُ حَذَفَهُ، ولَقَد وَلِيَ خَمسَ سِنينَ ما وَضَعَ آجُرَّةً عَلى آجُرَّةٍ، ولا لَبِنَةً عَلى لَبِنَةٍ، ولا أقطَعَ قَطيعًا، ولا أورَثَ بَيضاءَ ولا حَمراءَ، وإن كانَ لَيُطعِمُ النّاسَ خُبزَ البُرِّ وَاللَّحمِ، ويَنصَرِفُ إلى مَنزِلِهِ ويَأكُلُ خُبزَ الشَّعيرِ وَالزَّيتِ وَالخَلِّ، وما وَرَدَ عَلَيهِ أمرانِ كِلاهُما لِلهِ رِضىً إلّا أخَذَ بِأَشَدِّهِما عَلى بَدَنِهِ»[11] .

وتنقل عدة روايات أنّ عليًّا في وقت خلافته في الكوفة كان يتعمّد ألّا يشتري حاجاته ممن يعرفه.

رُوِيَ عَن مَولىً لِبَنِي الأَشتَرِ النَّخَعِيِّ قالَ: رَأَيتُ أميرَ المُؤمِنينَ عَلِيًّا وأنَا غُلامٌ وقد أتَى السّوقَ بِالكوفَةِ، فَقالَ لِبَعضِ باعَةِ الثِّيابِ: أ تَعرِفُني؟ قالَ: نَعَم، أنتَ أميرُ المُؤمِنينَ، فَتَجاوَزَهُ. وسَأَلَ آخَرَ، فَأَجابَ بِمِثلِ ذلِكَ، إلى أن سَأَلَ واحِدًا فَقالَ: ما أعرِفُكَ، فَاشتَرى مِنهُ قَمِيْصًا، فَلَبِسَهُ، ثُمَّ قالَ: الحَمدُ للهِ الَّذي كَسا عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ. وإنَّمَا ابتاعَ ممّن لا يَعرِفُهُ خَوفًا مِنَ المُحاباةِ في إرخاصِ مَا ابتاعَهُ»[12] .

وهكذا نجد مشاهد كثيرة سجلتها كتب التاريخ عن سيرة أمير المؤمنين تؤكد المبدأ الذي تحدث عنه، أنه إذا حصل الإنسان على موقع بارز في محيطه الاجتماعي، عليه ألّا يسمح لمشاعر الغرور والتكبر أن تعشش في نفسه، وألّا تتغيّر أخلاقه وتعامله مع من حوله، بل عليه أن يكون حذرًا يقظًا، وأن يجعل شكره لله على هذه النعمة هو التواضع للناس والدنو منهم.

ذات مرة حدثت مشكلة بين زوج وزوجته، وكان الزوج أستاذًا جامعيًّا، ويشكو من أن زوجته لا تعطيه التقدير اللائق بأستاذ جامعي!!

البعض من الناس يتأثر سلبًا بموقعه الوظيفي، ويتعامل مع عائلته وجيرانه وأصدقائه باستعلاء، وهذا خطأ كبير.

علينا أن نستلهم من سيرة الإمام علي هذه الروح والأخلاق العظيمة.

ونختم بالدعاء الوارد عن الإمام زين العابدين وهو يعبّر عن التطلع لهذا السمو الأخلاقي: «اللَّهُمَّ صَـلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَلا تَـرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَـةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزًّا ظَاهِرَاً إلّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا»[13] .

نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإيّاكم للالتزام بمكارم الأخلاق.

* خطبة الجمعة بتاريخ 20 ذو حجة 1439هـ الموافق 1 سبتمبر 2018م.
[1]  نهج البلاغة، حكمة: 441.
[2]  نهج البلاغة، حكمة: 441.
[3]  الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد، ج11، ص277. ومثله في تاريخ اليعقوبي، ج2، ص162.
[4]  نهج البلاغة، خطبة 33.
[5]  الشيخ المفيد: الإرشاد، ج1، ص 247.
[6]  نهج البلاغة: الخطبة 3.
[7]  نهج البلاغة: الكتاب 50.
[8]  فضائل الصحابة لابن حنبل: ج2 ص621 ح1064.
[9]  المصدر نفسه.
[10]  الشيخ الطبرسي: الاحتجاج: ج2، ص518، ح340.
[11]  الشيخ الصدوق: الأمالي: ص356، ح437.
[12]  خصائص الأئمّة : ص80.
[13]  الصحيفة السجادية، دعاء رقم (20)، ص92، وكان من دعائه في مكارِمِ الاخلاقِ ومرضِيِّ الافعالِ.