تصفية الرغبات والتوجهات

 

ورد عن الإمام علي أنه قال: «مَنْ كَثُرَ فِكْرُهُ فِي المَعَاصِي دَعَتْهُ إلَيْهَا»[1] .

كلّ عمل يقوم به الإنسان من خير أو شرّ يبدأ برغبة تعتمل في نفسه أو خاطرة تجول في فكره، فإذا تفاعل الإنسان مع تلك الرغبة، وتجاوب مع تلك الخاطرة، وأخذ يفكر في تحقيقها ويتخيل صور تنفيذها، عندها يندفع لتحويل تلك الرغبة والخاطرة إلى عمل وممارسة.

لذلك ورد عن علي أنه قال: «اَلأعْمالُ ثِمارُ النِّيّاتِ»[2] .

البداية هي النية وثمرتها العمل، سواء في مجال الخير أو الشرّ، عن الإمام الصادق : «مَا مِنْ عَبْدٍ يُسِرُّ خَيْراً إِلَّا لَمْ تَذْهَبِ الْأَيَّامُ حَتّى يُظْهِرَ اللهُ لَهُ خَيْرًا، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يُسِرُّ شَرًّا إِلَّا لَمْ تَذْهَبِ الْأَيَّامُ حَتّى يُظْهِرَ اللهُ لَهُ شَرًّا»[3] .

مع مرور الوقت تتحول النية والرغبة إلى عمل خارجي، ولهذا يشجع الدين على توفر النية الصالحة بشكل دائم، بحيث يرغِّب الإنسان نفسه في عمل الخير والصلاح، وأن ينوي القيام بأعمال الخير حتى وإن لم يكن قادرًا على فعل الخير بشكل فوري، حتى تكون نفس الإنسان عامرةً بنية الخير، وتفكيره متجهًا صوب العمل الصالح بشكل دائم، وهذه النية تتحقق في يوم من الأيام، أو تكون أقرب إلى التحقق، وفي الروايات أنّ الله تعالى يكتب للإنسان ثواب عمل الخير الذي نوى، حتى وإن لم يفعله، فمجرد نية عمل الخير ينال بها الإنسان الأجر والثواب.

في رواية عن الإمام الرضا : (يَقولُ اللهُ لِلمَلائِكَةِ: هَلُمُّوا الصُّحُفَ الَّتي فيهَا الأَعمالُ الَّتي لَم يَعمَلوها ـ قالَ: ـ فَيَقرَؤونَها، ثُمَّ يَقولونَ: وعِزَّتِكَ إنَّكَ لَتَعلَمُ أنّا لَم نَعمَل مِنها شَيئًا، فَيَقولُ: صَدَقتُم؛ نَويتُموها فَكَتَبناها لَكُم، ثُمَّ يُثابونَ عَلَيها) [4] .

ينوي المؤمن أن يبني مسجدًا ويؤسّس مدرسةً ويزوِّج الشاب الأعزب، وقد لا يتمكن من تحقيق هذه النية، لكنه يجد ثواب ذلك كلّه في سجل أعماله الصالحة يوم القيامة!!

هذا كرم الله ورحمته ولطفه، وما على الإنسان إلّا أن يعزم على عمل الخير.

عن الإمام علي : «إحْسَانُ النِّيـَةِ يُوجِبُ المَثُوبَةَ»[5] .

وفِي حديث مروي عن رسول الله : «مَنْ أتى فِراشَهُ وهُو يَنوي أنْ يَقومَ يُصَلِّي مِن اللَّيلِ فغَلَبَتهُ عَيناهُ حتّى أصبَحَ كُتِبَ لَهُ ما نَوى، وكانَ نَومُهُ صَدَقَةً علَيهِ مِن رَبِّهِ»[6] .

فالنية الصالحة مقدرة عند الله تعالى، في مختلف مجالات العبادة والإنفاق، وعمل الخير بشكل عام، لا تحدّها حدود، بما يحفز الإنسان على الانطلاق في آفاق الحياة الرحبة.

عن الإمام الباقر : «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَتَرِدُ عَلَيْهِ الْحَاجَةُ لِأَخِيهِ، فَلَا تَكُونُ عِنْدَهُ، فَيَهْتَمُّ بِهَا قَلْبُهُ، فَيُدْخِلُهُ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ بِهَمِّهِ الْجَنَّةَ»[7] .

عن الإمام الصادق : «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ لَيَقُولُ: يَا رَبِّ ارْزُقْنِي حَتّى أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْبِرِّ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ، فَإِذَا عَلِمَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ ذلِكَ مِنْهُ بِصِدْقِ نِيَّةٍ، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَهُ لَوْ عَمِلَهُ؛ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ كَرِيمٌ»[8] .

يحدث أن يشكو لك أحدهم ما يعانيه من ضيق ذات اليد، وحاجته لبناء بيته، أو تزويج أبنائه، وهنا يكون موقفك بين أمرين: إما أن تتجاهل حديثه، وترى أنه في غير محله وتستنكر طلبه، أو تعزم في نفسك وتتمنى مساعدته، وتقول: يا ربّ، لو كان عندي من الخير لوقفت إلى جانبه وأعنته.

فعلى الإنسان أن ينوي أعمال الخير، ويجعل نفسه عامرة بمقاصد الخير، في العلاقة مع الله، وفي التعامل مع الناس.

عن الإمام علي : «إنَّ اللهَ سُبْحانَهُ يُحِبُّ أنْ تَكُونَ نِيَّةُ الإنْسانِ لِلنّاسِ جَمِيلَةً، كَما يُحِبُّ أنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ في طاعَتِهِ قَوِيَّةً غَيْرَ مَدْخُولَة»[9] .

آثار نية الشر

في المقابل على الإنسان ألّا يفسح المجال في نفسه لنمو رغبات السوء، ذلك أنّ مرور تلك الرغبات على شاشة النفس أمر طبيعي، بسبب النزعات الشهوانية عند الإنسان، لكنه تارة ينمّي تلك الرغبة السيئة في نفسه، بالتفكير المستمر فيها، وتخيلها، وتمنّي تحقيقها، وهنا يكون أقرب للوقوع في السوء، وتارة أخرى يكون يقظًا فيحاصر تلك الرغبات السيئة، فبمجرد أن تبدو في نفسه يكبحها ويصرف فكره عنها، ويستحضر سوءَها، وبذلك ينجو من الوقوع فيها.

إنّ الله بلطفه ورحمته لا يحاسب الإنسان على نيته السيئة، أما النية الحسنة فيكتب له ثوابها، لكن وجود رغبة السوء في النفس قد تكون خطوة أولى نحو الوقوع في المعصية، فهي تهيئ النفس للذنب، فعلى الإنسان أن يمنع نفسه من التفكير في المعصية مع أول بادرة أو خاطرة، سواء كانت مخالفه بينه وبين ربه، أو إساءة إلى الآخرين.

إذا حدثتك نفسك بمقاطعة شخص، أو الإساءة إليه، فعلك أن تواجه هذه الخاطرة، ولا تتركها تنمو داخل نفسك؛ لأنّ هذا يجعلك أقرب للمعصية كما ورد عن الإمام علي : «مَنْ كَثُرَ فِكْرُهُ فِي المَعاصِي دَعَتْهُ إلَيْها»[10] .

وفي كلمة أخرى عنه : «مَنْ كَثُرَ فِكْرُهُ فِي اللَّذَّاتِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ»[11] .

أحيانًا يتلذذ الإنسان بتخيل ممارسة الحرام، فيخطو الخطوة الأولى نحو المعصية، بينما عليه أن يتجنب ذلك.

وكم من إنسان وقع في الحرام والبداية كانت التخيّل؟!

أجواء تنمّي رغبات السوء

ومِمَّا ينمّي الرغبة في الحرام مجالسة قرناء السوء، والحضور في مجالس اللهو، حين يجلس شاب صالح مع شباب يتحدثون عن مغامراتهم الطائشة، هنا تتطبع الحالة في نفسه، والشيطان يسوّل له محاكاة مثل هذه الأعمال التي سمعها من غيره!!

ومن هنا تأتي حرمة مشاهدة الأفلام الإباحية، التي تُطبِّع المعصية والخيانة في نفس الإنسان، وتدفعه إلى الحرام، إنها تهيئ نفس الإنسان للوقوع في الحرام، وفي بعض الأحيان يخدع الإنسان نفسه، يفكر أن يتجاوب جزئيًّا، فتسول له نفسه المراسلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع الجنس الآخر، لكن مجرد المراسلة قد تكون خطوة نحو الحرام، وكم من شاب وفتاة وقعا في مهاوي الرذيلة والبداية هي الاستجابة لمراسلات خاصة؟ هناك نفوس سيئة تحترف استدراج الآخرين بهذا الاتجاه، وإذا خطا الإنسان الخطوة الأولى قد يصعب عليه التراجع فيما بعد!!

قرأت عن بعض التجارب، والبعض حدثني عن نتائج التواصل مع الجنس الآخر، والبداية تكون بتبريرات واهية، يدخل بها الشيطان، ويزيّن للشاب أو الفتاة التواصل بحجة محاولة هداية الطرف الآخر!!

وكم من مشاكل ومصائب حدثت بهذا السبب؟!

شخص لم يقارف المعصية، يسافر مع مجموعة لديهم توجهات مشبوهة، وهو يعرف أنّ هؤلاء يسيرون في طريق الرذيلة، لكنه يبرر لنفسه أنه لن يسايرهم في أفعالهم!

من يضمن لك عدم الانزلاق معهم، ومع وساوس الشيطان، ورغبات النفس الأمارة بالسوء؟!

في القرآن الكريم آية مهمة جدًّا تتحدث عّن صفات المتقين، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[سورة الأعراف، الآية: 201].

لاحظ التعبير (طَائِفٌ)، والطائف هو الذي يدور حول الشيء، الآية تشبه الشيطان بمن يدور حول الشيء يبحث عن منفذ حتى يدخل ويلج، وهكذا هو الشيطان يدور حول نفس الإنسان يريد أن يجد منفذًا إلى قلبه، والإنسان المتقي يكون منتبهًا حذرًا، (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) واستخدم كلمة (مَسّ) وهي الإصابة الخفيفة، لكن المتقين يتنبهون لذلك، حتى لو كانت همسة خفيفة، كي لا يفسحوا المجال للشيطان، ويقعون في المعصية.

على الإنسان أن يكون حذرًا سواء تجاه رغبات الجنس، أو المال، أو العدوان والإساءة إلى الآخرين، فإنّ الشيطان يسوّل للإنسان، ويزيّن له، ويهوّن عليه الأمر، بطريقة الاستدراج خطوة خطوة، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنها خطوات، وليس بشكل مباشر يدعوك إلى الجريمة والانحراف ﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإيّاكم من الذاكرين، وألّا يجعلنا من الغافلين، اللهم أعنّا على أنفسنا كما أعنت الصالحين على أنفسهم وامنحنا البصيرة واليقظة والوعي، ووفقنا للاستقامة والصلاح.

* خطبة الجمعة بتاريخ 14 ذو القعدة 1439هـ الموافق 27 يوليو 2018م.
[1]  غرر الحكم ودرر الكلم ص359، حكمة: 1270.
[2]  المصدر السابق، ص19، حكمة: 74.
[3]  الكافي ج2، ص295.
[4]  بحار الأنوار، ج67، ص204.
[5]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص72، حكمة: 4.
[6]  السنن الكبرى للنسائي، كتاب الْأَمْرُ بِالْوِتْرِ، فصل: مَنْ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ، حديث رقم 1439.
[7]  الكافي: ج2، ص196، ح14.
[8]  الكافي، ج2، ص85، ح3.
[9]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص124، حكمة: 58
[10]  غرر الحكم ودرر الكلم ص359، حكمة: 1270
[11]  المصدر السابق، حكمة: 1269.