لماذا العذاب والنار؟

 

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا[سورة النساء، الآية: 147].

من بين كلّ الصفات، اختار الله سبحانه وتعالى لذاته صفة الرحمة، لتكون مرافقة ومرادفة لاسمه تعالى، كما هو في البسملة التي تفتتح بها كلّ سور القرآن الكريم، حيث نقول (بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ)، (الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ) اسمان مشتقان من الرحمة، وهما من أبنية المبالغة، والرحمن أبلغ  من الرحيم، كما أنّ الرحمن خاص بالله  تعالى، لا يسمى به غيره ولا يوصف، فيمكن أن تصف شخصًا ما بأنه رحيم كريم جميل، لكن (رحمن) اسم خاصٌ بالله سبحانه، لذلك يقول تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ويقول تعالى: ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا، وقال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، وقال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، فهو خاصٌّ بالله سبحانه، وفِي القرآن الكريم تتكرر صفة الرحمة إلى جانب صفات أخرى في ذات السياق كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، العطف والعفو والمغفرة، كلّ هذه الصفات نراها متكررة في آيات القرآن الكريم، لتأكيد جانب الرحمة و اللطف والرأفة في الصفات الإلهية.

الحديث عن عذاب الله

من جانب آخر يتحدث القرآن الكريم عمّا أعدّه الله تعالى للكافرين والمعاندين والظالمين والعصاة من العذاب والعقاب، لتحذير عباده من ذلك، القرآن الكريم فيه مساحة واسعة للحديث عن النار وعن العذاب والعقاب يوم القيامة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا، وفي آيات أخرى يتحدث القرآن عن العذاب في نار جهنم، يقول تعالى: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ

ويقول تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا.

من جهة نرى تأكيدًا على صفة الرحمة، ومن جهة أخرى نجد هذه الصور عن العذاب والعقاب!!

هنا يأتي السؤال: لماذا خلق الله جهنم، وقرّر العذاب، وهو الرحيم بعباده؟!

بعض الفلاسفة ادّعوا بأنّ الحديث عن النار والعذاب في يوم القيامة مجرد تخويف، ليس له حقيقة، فهو شيء وهمي، جاءت الأديان به كي تخوف الناس، وتجعلهم يبتعدون عن الظلم والمعاصي والذنوب؛ لأنّ الأنبياء لديهم هدف نبيل، هو تحذير الناس من الظلم والمعاصي، فاستخدموا هذا الأسلوب، ويشبهون في ذلك الأب الذي يحذّر أطفاله من بعض الموجودات الوهمية، (لا يأتيك الغول) أو كما كان في بلادنا سابقًا (لا تأتيك أم الخضر والليف)!!

أو كمن يهدد ابنه بعقوبات لا يقصد إيقاعها (أقتلك..أذبحك)!

بعض الآباء يستخدم هذه الأساليب من أجل ردع أبنائه وتربيتهم، لكن لا يقصد بها الأمر الحقيقي، ويرى هؤلاء الفلاسفة أنّ ما ورد في القرآن من حديث عن جهنم وعن النار والعذاب لو كانت حقيقية فإنها لا تليق برحمة الله وعفوه.

بالطبع لا يمكن القبول بهذا التفسير، فالأديان ترفض هذه الأساليب الملتوية، والأنبياء لا يستخدمون الوسائل غير السليمة، فالكذب في حدّ ذاته أمر قبيح، ولا يمكن أن يأتي الله تعالى بكلام غير حقيقي، وإن كان لوسيلة نبيلة، فالغاية لا تبرر الوسيلة، ولو جاز أن نفترض هذا الأمر، لكان احتمال وجوده في مجالات أخرى قائمًا، وهنا لا تصبح للأديان وللشرائع واقعية ولا مصداقية. من ناحية أخرى، فإنّ آيات القرآن الكريم واضحة وظاهرة أنّ الجنة والنار والثواب والعذاب أمر حقيقي، وليس للترهيب والترغيب فقط، بل يثير القرآن الكريم مثل هذا الاحتمال ويفنّده، يقول تعالى: ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟

فيأتي الجواب قاطعًا: ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ

فالدينيون في كلّ الأديان يعتقدون أنّ الجنة والنار وجود حقيقي، وليس أمرًا وهميًّا للترهيب والترغيب.

لماذا العذاب من الرب الرحيم؟

وهنا يأتي السؤال: لماذا هذه النار وهذا العذاب والعقاب من قبل الربّ الغفور الرحيم؟

في الواقع هذه النار وهذا العذاب من أجل مصلحة الإنسان نفسه، حيث إنّ لديه غرائز وشهوات تدفعه للظلم وللعدوان والتمرد على خالقه، فيحتاج إلى ردع، وإذا لم يكن هناك عذاب وعقاب، ما الذي يمنع الإنسان من التمادي في غيه وظلمه وطغيانه؟!

لا بُدّ من وجود عذاب وعقاب حتى يكون رادعًا للإنسان، وإذا كان الأمر وهميًّا كما قال الفلاسفة سيكتشف الناس ذلك في وقت ما، وتنتهي مصداقية الردع الذي يحتاجه الإنسان.

من ناحية أخرى، فإنّ ذلك من أجل أن يثق الإنسان بعدالة الله وحكمته، وإذا لم يكن هناك عذاب ولا عقاب في الآخرة، ماذا سيكون مصير المجرمين والظلمة في الدنيا؟!

من يعيثون في الأرض فسادًا، يظلمون، ويسفكون الدماء، وينتهكون الحرمات، ثم يفلتون من العذاب. هل كلّ مجرم يلقى جزاءه في هذه الدنيا؟!

وهل كلّ ظالم تصل إليه العدالة ويقتصّ منه في الدنيا؟!

الأمر واضح، فكم من المجرمين عاشوا حياتهم وأفلتوا من العدالة، بل هناك من لم يُعرف إجرامهم، يتسترون على جرائمهم، أو تحميهم قوتهم من الانتقام منهم في الحياة الدنيا، فإذا انتهت هذه الحياة وانتهى كلّ شيء، إذاً، أين العدالة والحكمة؟!

هنا لا يثق الإنسان بالعدل والعدالة، ولا يثق بحكمة الخالق تعالى، فلا بُدّ من وجود عذاب وعقاب حتى يثق الإنسان بأنّ العدالة تأخذ مجراها في النهاية، وأنّ المجرم والظالم سيصل إلى مرحلة يدفع فيها ثمن طغيانه وبغيه.

بعض المجرمين حتى لو حوكموا في هذه الدنيا، بماذا سيحكم عليه؟!

هذا الذي قتل الآلاف، بل الملايين، مثل بعض الطغاة الذي يكون سببًا في حروب يفنى فيها الملايين من البشر، حتى لو حوكم، بماذا سيحكم عليه؟

أقصى ما سيحكم عليه بالإعدام!

يعدم مرة واحدة وانتهى كلّ شيء!

بعض المحاكم تصدر حكم الإعدام أكثر من مرة على المجرم، لكنه لن يعدم إلّا مرة واحدة، أو يحكم عليه بالسجن، وبعض الأحكام تصل إلى 400 سنة، وهو لن يعيش إلّا مدة محدودة، لا تمثل شيئًا في مقابل ظلمه وطغيانه، من هنا كان لا بُدّ من وجود النار والعقاب في الآخرة، من أجل أن تأخذ العدالة مجراها.

جهنم هي لمعاقبة هؤلاء المجرمين الذين يتمادون في غيّهم وإجرامهم، وكفرهم بخالقهم، مع أنّ فطرتهم تدعوهم للإيمان بالله، وعقولهم تدعوهم إلى شكر نعم الله، لكنهم يتمادون في الجحود والكفر فيستحقون العذاب، وإلّا فليست هناك مصلحة لله سبحانه وتعالى في أن يعذّب أحدًا من خلقه.

لا مصلحة لله في عذاب أحد

الآية الكريمة تقول: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ أي ليست لله تعالى مصلحة في أن يعذّب أحدًا، وليست لديه حالة تشفٍّ من أحد، ولكن لهذين الأمرين خلق النار وأوجد العذاب، وكلّ من في قلبه ذرة من الإيمان ومن الرجاء لله تعالى، فإنّ أبواب الخلاص مفتوحة له، فعن الإمام الصادق أنه قال: «إِنَّ آخِرَ عَبْدٍ يُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ فَيَلْتَفِتُ فَيَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ: أَعْجِلُوهُ. فَإِذَا أُتِيَ بِهِ قَالَ لَهُ: عَبْدِي لِمَ الْتَفَتَّ؟.

فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا كَانَ ظَنِّي بِكَ هَذَا؟!.

فَيَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ: عَبْدِي مَا كَانَ ظَنُّكَ بِي!..

فَيَقُولُ: يَا رَبِّ كَانَ ظَنِّي بِكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي وَتُدْخِلَنِي جَنَّتَكَ.

قَالَ: فَيَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ: مَلَائِكَتِي وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَآلَائِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي مَا ظَنَّ بِي هَذَا سَاعَةً مِنْ حَيَاتِهِ خَيْراً قَطُّ، وَلَوْ ظَنَّ بِي سَاعَةً مِنْ حَيَاتِهِ خَيْراً مَا رَوَّعْتُهُ بِالنَّارِ أَجِيزُوا لَهُ كَذِبَهُ وَأَدْخِلُوهُ الْجَنَّةَ»[1] .

رحمة الله واسعة، وهذا ما تؤكّد عليه آيات كثيرة في القرآن الكريم ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا.

وورد عنه أنه قال: «إِنَّ لِلهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[2] .

وعنه : «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَغْفِرَنَّ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْفِرَةً يَتَطَاوَلُ لَهَا إِبْلِيسُ رَجَاءَ أَنْ تُصِيبَهُ»[3] .

وروي عن الإمام الصادق : «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَشَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَحْمَتَهُ حَتَّى يَطْمَعَ إِبْلِيسُ فِي رَحْمَتِه»[4] .

لكن هذا لا يعني أنّ الإنسان يتكل على الرجاء وعلى هذه الرحمة الواسعة، فيتساهل ويتهاون في المعصية؛ لأنّ هذه الرحمة المغفرة محتملة وليست حتمية، وقد يمرّ الإنسان بشيء من العذاب!

لماذا يحمل نفسه شيئًا ولو قليلًا من العذاب؟!

وقليل العذاب هناك كثير، لذلك على الإنسان ـ مع اتكاله واعتماده وثقته برحمة الله ـ أن يكون خائفًا من عذاب الله، وعقابه، عن الإمام جعفر الصادق : «ارْجُ الله رَجَاءً لا يُجَرّئُكَ على مَعاصِيهِ، وخَفِ الله خَوفًا لا يُؤْيِسُكَ مِن رَحمَتِهِ»[5] .

علينا أن نثق برحمة الله تعالى، فهذه الآيات وهذه النصوص إنّما هي تقصد المجرمين الظلمة العتاة المتمردين على الله، لكن الإنسان المؤمن لا ينبغي أن تجرّئه الثقة برحمة الله على المعصية؛ لأنّ هناك عذابًا وعقابًا قد يلحق بالإنسان يوم القيامة، فيحتاج إلى رحمة الله لكي تنقذه من تقصيره ومن أخطائه وذنوبه.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشملنا برحمته وعفوه ورضوانه، وأن ينقذنا من النار، وأن يجعلنا من أهل الجنة والنعيم.

* خطبة الجمعة بتاريخ 22 شوال 1439هـ الموافق 6 يوليو 2018م.
[1]  الحرّ العاملي: وسائل الشيعة، ج11، ص182.
[2]  صحيح مسلم، كتاب التَّوْبَةِ، بَابٌ فِي سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا سَبَقَتْ غَضَبَهُ، حديث رقم 5073.
[3]  المعجم الكبير للطبراني، حديث رقم 2952.
[4]  الشيخ الصدوق، الأمالي: ص274.
[5]  البروجردي: جامع أحاديث الشيعة، ج14، ص168.