الدكتور الرفاعي دعوة التجديد ورسالة الانفتاح
بسم الله الرحمن الرحيم
كما قسّم الله ثروات الكون على مختلف بقاع الأرض، لينال كل البشر نصيبهم من نعم الخالق وفضله، فإنه تعالى منحهم جميعاً قدرات التفكير والادراك، لينعموا بامتياز العلم والمعرفة الذي خص به تعالى بني الإنسان.
إنها ميزة الإنسان كإنسان، مهما كان لونه وعرقه، ومن أي قبيلة انحدر، وفي أي بقعة حلّ،فهو كائن مفكر، يمتلك قابلية المعرفة، وأدوات كسب العلم.
وإذا كان يمكن تقييد حركة جسمه، ومصادرة بعض حقوقه المادية، فإن عقله وفكره منطقة حرة لا يطالها القيد والمنع.
من هنا كانت قسمة العقل على بني البشر من أفضل ما قسمه تعالى على عباده، كما جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما قسّم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل).
ومعنى ذلك أنه لا يحق لفئة من البشر أن تدعي احتكار هذا الامتياز، وأنهم وحدهم المؤهلون للتفكير، وإدراك حقائق المعرفة والعلم، ومن ادعى ذلك خالف الواقع، وحرم نفسه من الاستفادة مما عند الآخرين.
وحيث تختلف البيئات التي يعيش فيها الناس، وتتعدد اهتماماتهم، وتتفاوت زوايا نظراتهم للأمور، لذلك تتنوع ثقافاتهم، وتتمايز توجهاتهم الفكرية، ومنتوجاتهم المعرفية.
وفي تنوع الثقافات، وتمايز التوجهات، اثراء كبير للفكر الانساني، تتقدم من خلاله مسيرة المعرفة، وتتلاقح الآراء والأفكار، وتتجلى الحقائق بشكل أفضل حين ترسم صور ابعادها، من اتجاهات متعددة، وزوايا مختلفة.
وتشكل كل ثقافة اضافة نوعية لرصيد المعرفة، مما يوجب احترام الثقافات، والاهتمام بنتاج مختلف التوجهات الفكرية والمعرفية.
سئل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن أعلم الناس؟ قال: من جمع علم الناس إلى علمه.
لكن كثيراً من الأوساط المحسوبة على العلم والمعرفة في مجتمعاتنا، وخاصة من الدينيين، لا تزال تتلكأ في مجال الانفتاح على الثقافات والمعارف من خارج دائرتها، اما انطلاقاً من الشعور بالاكتفاء والاعتداد بتراثها الخاص، والذي يمثل في نظرها الحقيقة المطلقة، أو لاشتراطها التوافق الايديولوجي مع أي مصدر معرفي ثقافي، لمشروعية الانفتاح عليه والأخذ منه.
مع أن النصوص الدينية الواردة تدعو للبحث عن المعرفة والحكمة من أي مصدر كان، فقد جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لا تنظر إلى من قال وأنظر إلى ما قال).
وعنه (صلى الله عليه وآله): كلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها.
وورد عن علي (عليه السلام): الحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند مشرك
وقال في كلمة أخرى: الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق.
هذا الانغلاق والقطيعة التي اختارتها هذه الأوساط لنفسها، دفعها لأضيق زوايا العزلة والانكفاء، حيث بدأت بالقطيعة مع المغاير لها في الدين، ثم المخالف لها في المذهب داخل الدين، وصولاً إلى المختلف معها في الرأي ضمن المذهب.
وانعكس هذا الانغلاق تزمتاً تجاه تطورات الحياة، وتشدداً في التعامل مع الآخر، مما كرّس التخلف في واقع الأمة، وعزز توجهات الخصومة والنزاع.
إن من عوامل التوترات والنزاعات التي تعيشها ساحة الأمة، هو القطيعة المعرفية بين أطيافها وأطرافها، وانتشار تيارات التشدد والتطرف تجاه الآخر الحضاري والفكري.
مما يوجب بذل أقصى الجهود لنشر ثقافة الانفتاح والتسامح، ومواجهة فكر التشدد والانغلاق.
بيد أن عوائق وعقبات كثيرة تنتصب أمام المخلصين الساعين للقيام بهذا الواجب الخطير، فهناك توظيف سياسي لتيار التطرف والتشدد وسط مختلف الأطراف، لتبقى شعوب الأمة منشغلة بصراعاتها المذهبية والفكرية، بعيدة عن الاهتمام بقضاياها المصيرية، وبانجاز مشاريع التنمية والتقدم في أوطانها.
وهناك سدنة المعبد ومراكز القوى الدينية التي تستمد شرعية نفوذها، وحماية مصالحها، من تأجيج مشاعر جمهورها ضد الآخر العدو المصطنع.
هذه التحالف القذر بين السياسي المصلحي، والديني الانتهازي، يجعل مهمة الواعين المصلحين صعبة شديد الكلفة، لا يستقيم في التصدي لها وتحمل أعبائها، إلا من امتحن الله قلبه بصدق الايمان، وقوة الارادة، ووضوح الرؤية.
حيث تُشنّ على دعاة الإصلاح الفكري، حملات التشويه والتشهير، بهدف اسقاط شخصياتهم، ومحاصرة اطروحاتهم، باتهامهم في دينهم، وأنهم ناقصو العقيدة، مصابون بلوثة الضلال والانحراف، متأثرون بالآخر من خارج الدين والمذهب.
وقد يضطر بعض المصلحين تحت وطأة الضغوط الشديدة إلى الانسحاب من ميدان المواجهة، أو تعويم موقفه، وتجميد نشاطه ودوره، في مجال الدعوة إلى الإصلاح، والتسامح والانفتاح.
ومن القامات الشامخة الصامدة في ميدان الإصلاح الفكري، والنضال الثقافي، الأستاذ المفكر العلامة الدكتور الشيخ عبدالجبار الرفاعي حفظه الله تعالى، فقد توفّرت شخصيته على عناصر قوة مكنته من مواصلة العطاء الفكري، والنزال العلمي، منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، واجه فيها ألواناً من المشاكل والمصاعب، لكن عزيمته تزداد مضاءً، وفكره يتقد توهجاً، ونتاجه المعرفي يواكب العصر تطوراً.
إن أول عناصر القوة في شخصيته: رسوخ قدمه في العلوم الشرعية، فهو ربيب الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وقم المقدسة، منذ عام 1978م، ومن رواد دروس الاجتهاد والاستنباط، التي يطلق عليها (البحث الخارج)، وهو مدرس للسطوح العالية في الفقه والأصول. اضافة لدروس الفلسفة والمنطق، وحين يقول رأياً في الدين، يقوله من موقع الباحث الخبير.
أما العنصر الثاني فهو: سعة أفقه المعرفي، بمتابعته لتطورات الفكر والثقافة العالمية، فقد قرأ مختلف مدارس الفكر الغربي الحديث، وتعرّف على أهم وأبرز نظريات عمالقته ومفكريه، وهو مواكب جادّ لكل نتاج فكري جديد يدخل في مجال اهتمامه المعرفي.
والعنصر الثالث: معايشته الواعية لتحولات وتجارب الساحة الإسلامية المعاصرة، فقد رافق مسيرة الحركة الإسلامية في العراق، وعاش تجرية الثورة الإسلامية في إيران، وانفتح على مختلف ساحات العالم الإسلامي، حيث تربطه علاقات وثيقة، بعدد كبير من القيادات والقوى المؤثرة في مجتمعات الأمة.
العنصر الرابع: التزامه السلوكي بما يبشّر به من قيم اخلاقية حضارية، فاحترامه للرأي الآخر، وانفتاحه عليه وتواصله معه، وحواره له بأدب وموضوعية، سمة يشهد بها كل متابع لكتابات الدكتور الرفاعي، وكل عارف بشبكة علاقاته.
ولا يحتكر الدكتور الرفاعي انجازاته في مجال العلاقات والتواصل، بل يهتم بتعريف الناس على بعضهم بعضا، ويسعى لاقامة جسور التعارف والتواصل بين ذوي الرأي، والمهتمين بالفكر وبالشأن العام.
ومجلته (قضايا إسلامية معاصرة) التي أصدرها منذ حوالي عشرين عاماً، تجسّد هذا التوجه الفكري والسلوكي الذي تميّز به، فهي منتدى فكري رصين، تلتقي فيه آراء المفكرين والمثقفين المهمومين بقضايا النهضة والإصلاح، من مختلف أرجاء الأمة وبقاعها وتوجهاتها.
وإلى جانب هذه المجلة الرائدة، اصدر الدكتور الرفاعي أكثر من سلسلة كتب، يحرر فيها آراء كبار المفكرين المعاصرين، حول أهم قضايا الفكر والأمة، ويحاورهم في خطوط التماسّ ونقاط الاختلاف، لبلورة الآراء وانضاجها وتكاملها، كالسلسلة القيمة (آفاق التجديد).
ومن الجهود الرائعة المشكورة، التي قام بها الدكتور الرفاعي على هذا الصعيد، تجليته للمشهد الثقافي في إيران، باللغة العربية، ليتابع المفكرون والمثقفون في العالم العربي، ما يحدث من تطورات مهمة، في المعرفة والثقافة الدينية، لدى اخوانهم الإيرانيين، الذين يعيشون تجربة متقدمة مثيرة للاهتمام، منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979م، وسعيها لاقامة نظام سياسي اجتماعي، ينبثق من قيم الإسلام، ويتوافق مع روح العصر، وتطورات العلم والحياة.
ومع قرب هذه التجربة جغرافياً للعالم العربي، الذي تتعثر فيه محاولات النهوض، ومع وحدة الانتماء الحضاري للإسلام، إلا ان التجربة الإيرانية، وخاصة في بعدها الفكري الثقافي، لا تحظى بالمتابعة اللازمة من مفكري ومثقفي العالم العربي، بسبب حاجز اللغة، والخلاف المذهبي، والصراع السياسي، وغياب مؤسسات الدراسات والأبحاث، التي تعنى بدور التواصل والتبادل الثقافي.
هنا تبدو أهمية الجهد المميّز الذي بذله الدكتور الرفاعي، من خلال ما ينشره في مجلته (قضايا إسلامية معاصرة) أو سلسلة (آفاق التجديد) من ترجمة مقالات أبز المفكرين الإيرانيين، كما اصدر سلسلة من الكتب التي تعنى برصد المشهد الثقافي والفكري في إيران تناول من خلالها محاور مهمة مثل (علم الكلام الجديد وفلسفة التجديد) و (فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة)، وتكشف هذه الكتب والأبحاث، عن عمق متابعة الدكتور الرفاعي لحراك وتحولات الساحة الفكرية في إيران ، بقرائته لمختلف النظريات في وسط الحوزة العلمية الدينية، وفي أوساط المفكرين الأكاديميين، واستيعابه لمعارك الجدل والصراع الفكري بين التوجهات المختلفة.
إنه دور مهم جداً، كان يجب أن تقوم به مؤسسات متخصصة في الأبحاث والترجمة، لكن الدكتور الرفاعي ينهض بهذه المهمة بجهده الذاتي، تحفزه لذلك همته العالية، واخلاصه العميق للفكر والمعرفة.
وهناك بعد آخر تتميز به شخصية الدكتور الرفاعي، ويعزز دوره في مجالات الإصلاح والتطوير، وهو رعايته لكل الجهود والطاقات، التي تصب في خدمة الدعوة والرسالة التي يحملها، وهذا ما لمسته شخصياً من خلال علاقتي وتواصلي معه، فهو يبحث عمن يشاركونه هم التجديد والإصلاح، ويبادر للانفتاح على أي شخص له توجه فكري إصلاحي، من أي مذهب أو طائفة أو اتجاه، ويقدم التشجيع والدعم لأي جهد ثقافي على هذا الصعيد، ويقف متضامناً مسانداً لمن تحاصره المشاكل والضغوط الاجتماعية جرّاء طرحه لراي نقدي أو فكرة إصلاحية.
هكذا عرفت شخصية الدكتور الرفاعي وقرأت مشروعه الفكري، الذي نذر له عمره وحياته، إنه دعوة للإصلاح والتجديد ورسالة للتسامح والانفتاح.
حفظه الله ورعاه منارة إشعاع، وداعية خير وإصلاح.
حسن موسى الصفار
6 ربيع الأول 1435هـ
الموافق 7 يناير 2014م